في أثر التواصل على أدمغة الأطفال وعلاقاتهم الاجتماعيّة

كتبته: غيداء جمعان

لو سألنا مجموعةً من الأفراد عن أساس العلاقة الجيدة بين الآباء والأبناء؛ لجمعنا قَدْرًا كبيرًا من الإجابات التي تشير إلى أهمية التواصل والاستماع التعاطفي، الذي يتطلب مراعاة الطرف الآخر. وهذا التواصل يعد جزءًا حيويًّا من عملية التربية، وهذه المساحة الآمنة التي يتفاعل فيها الآباء وأبناءهم تدعم التواصل المبني على الثقة.

تشير الدراسات إلى أنَّ العنصر المشترك في التعلق الصحي بين الأبناء والآباء هو ذلك التواصل الذي يَشعُر الطفل فيه بأنَّ حاجاته مفهومة وقيد الاستجابة دائمًا من أبويه، أي أنَّ علاقتهما في حركة تواصل تعاوني منسجم يَشعر فيه كل فرد بالاحترام والحب، وحيث تمر كل العلاقات بمنعطفات وفترات ضعف وقوة، فإنَّ التواصل الجيد يمكِّنُها من التعامل مع الصراعات ويقودُها إلى بر الأمان.

وباعتبارنا مربين، فنحن حريصون على أن نحيط بكل ما يؤثر في أطفالنا، وفي عملية اتصالنا بهم؛ لذلك فإنَّ معرفة كيفية استجابة الدماغ للأسلوب الذي نمارسه مع أطفالنا في التواصل أمرٌ مهمٌ؛ لأنَّ الدماغ -إلى حد كبير- يتأثر بأسلوب التواصل والتجارِب التي يتعرض لها الطفل من قبل الأبوين أو مقدِّمي الرعاية.

التواصل بين نصفي الدماغ:

     ينقسم الدماغ إلى نصفين: الأيمن، والأيسر. ويرتبط النصفان المنفصلان جسديًا من المخ ببعضهما من خلال أنسجة عصبية تسمى الجسم الثفني. ولا ينقسم هذان الجانبان تشريحيًا فحسب، بل إنَّ الانفصال بين النصفين يمكّن كلًا منهما من إجراء عملية تبدأ بالمدخلات، ثم المعالجة الداخلية، ثم المخرجات بشكلٍ مستقل نوعًا ما، وهذه هي الطريقة الأساسية التي تلخِّص دور المخ والجهاز العصبي بشكلٍ عام.

وبشكلٍ مبسط يُعنى النصفُ الأيمن بإرسال واستقبال الإشارات غير اللفظية، مثل: تعابير الوجه، واتصال العينين، ونبرة الصوت، والمعرفة الاجتماعية، والبصيرة؛ لذلك فهو المسؤول عن معنى وإحساس التجرِبة، وعن تنظيم حالاتنا العاطفية الداخلية؛ لذلك فإنَّ له تأثيرًا عميقًا في وصول عقولنا إلى حالة من التوازن.

أما النصف الأيسر، فهو مسؤول عن إرسال واستقبال البيانات الشفهية، أي أنَّه يعالج بيانات منطقية تعتمد على اللغة؛ يحللها ويبحث عن أنماط السبب والنتيجة.

والمؤثر في عملية التواصل هنا بين النصفين، هو أنَّه عندما تُرسَل الإشارات من النصف الأيمن في أدمغتنا إلى النصف الأيمن في أدمغة أطفالنا، وكذلك الكلمات المنطوقة من نصفنا الأيسر، عندما تنشّط النصف الأيسر لدى أطفالنا؛ يحدث التطابق في نقل الرسالة بين النصفين في أدمغة المتفاعِليْن؛ مما يعني الوضوح في الاتصال، وتحقق المنطقية والاتساق بين ما يشعرون به وما يظهر عليهم من انفعالات.

ومع استمرار تطوير مثل هذا التواصل التعاوني بين الطفل والمربين، يطور الطفل قصة متينة مترابطة عن ذاته، فعندما يشعر الأطفال بهذا التقبل والتَّفهُّم لحاجاتهم، فإنَّهم يشعرون بالأمان والحماية؛ مما يمكّنهم من الانفتاح على العالم، حيث يبنون معرفتهم الاجتماعية ويوسِّعون فهمهم عن ذواتهم، وهذا الفهم لا يمكن إدراكه بمعزلٍ عن الاتصال بالآخرين.

إعانة الطفل على إحداث التكامل الثنائي بين نصفي الدماغ:

اشتكى طفل إلى والده عن صديقه الذي أخلَّ بالالتزام بالدور في لعب الكرة، وأدى ذلك إلى خلاف بينهما، شعر من خلاله الطفل بالألم، لكنَّه عبّر لوالده بجملة مفادُها “أنَّه لا يهتم له، وقد كان مُحِقًّا في الاختلاف معه بعد أن اخترق الالتزام، وأنَّ لديه كثير من الأصدقاء بدلًا عنه” هذه كانت معالجة نصف الدماغ الأيسر لديه، لكنَّ إشارات نصف الدماغ الأيمن توحي بعكس الجملة، فقد بدت يداه ترتعشان في أثناء الحديث، وعيناه تخفي ألمًا ودموعًا، وهذه الإشارات توحي بمشاعره الحقيقية تجاه شجاره مع صديقه المفضل، لكن كانت طريقته في التعامل مع هذا الشعور المؤلم، الهروب إلى اليسار المنطقي الأكثر قابلية للتنبؤ والسيطرة.

ما فعله والده هو مساعدته في إعطاء مساحة لنصف الدماغ الأيمن، فهو المرتبط بشكل مباشر بالأحاسيس الجسدية ومدخلات الأجزاء السفلية من المخ التي تجتمع وتخلق العواطف. وقد كان ذلك بمساعدته في الاتساق مع ما يُضمِره من مشاعر حقيقية من خلال الخطوة الأولى لمحاولة التواصل بين مخه الأيمن ومخ الطفل الأيمن باستخدام تعبيرات الوجه المتعاطفة، والتواصل البصري الذي جعل الطفل يشعر بانسجام والده معه وأنَّه متفهمٌ لما يمر بِه.

وعند التأسيس لهذا الشعور بالاتصال بينهما، ستأتي اللغة الشفهية بشكل طبيعي وفي فرصة مناسبة لاستقبال الطفل إياها وعدم رفضها، ففي الخطوة الثانية طلب الوالد من الطفل إعادة سرد الحادثة والتوقف عند كل ما يثير مشاعر الطفل لمساعدته على إعادة الاتصال بمشاعره الحقيقية. وبهذه الطريقة حاول المواءمة بين نصف مخه الأيمن ومشاعره وتعبيراته الجسدية مع نصفه الأيسر وكلماته في سرد الحادثة بالتسلسل، فلا إنكارَ للعواطف، ولا تجاهلَ للكلمات والمنطق.

إنكار العواطف:

إنَّ تجاهل العواطف وإنكارها أو كبتها ليس الأمر الذي نحرص على حماية أطفالنا منه، بل إنَّ تجاهل إشارات النصف الأيمن والسماح بسيطرة النصف الأيسر يمنع الطفل من إدراك المشهد كاملًا بما فيه تلك البيانات المتضمنة للعواطف والايماءات التي تتم معالجتها من النصف الأيمن، والتي تشغل دورًا مهمًا في فهم سياق المشهد وتبني ردَّات فعل متضمنة ذلك ومُعتَبَر بها.

والأمر ذاته من إنكار العواطف وهيمنة الجزء الأيسر من الدماغ، فقد يحدث عندما يَعْلَق الأطفال في أزمة ضعف أو حرمان من التواصل مع من يُفترض أنَّهم أول وأهم من يَهتم بهم وبالاتصال معهم؛ ذلك بدوره يعطل عمليات التعلُّم لديهم؛ فتتقلص معالجة النصف الأيمن من الدماغ لمصلحة النصف الأيسر؛ مما قد يُظهر نَقْصًا في الوعي الذاتي وانخفاضًا في القدرة على إدراك إشارات الآخرين غير اللفظية.

ويبقى الاجتهاد في القيام بكل ما يعزز التكامل الثنائي بين الفصين هو ما يعين على أن نحيا حياةً نشعر فيها بالتماسك والاتزان في التواصل مع الآخرين؛ مما يؤثر في إحساسنا بذواتنا التي تتأثر بكيفية انتمائنا للآخرين.

توتر العلاقات مع الآخرين نتيجة سوء التواصل مع الأبوين:

بالنسبة لأولئك الأطفال الذي نشؤوا في بيئة شحيحة بالعاطفة والتواصل، فمن الطبيعي أن تتشكّل لديهم حالة ذهنية دفاعية تحوّل سلوكهم إلى التجنب بدلًا من الانفتاح والمبادرة إلى التواصل مع الآخرين، وتقلِّص من اعتمادهم على آبائهم ومقدمي الرعاية لهم؛ فيسعون نحو الاستقلال والاعتماد على الذات وهم بهذه الطريقة يطوِّرون آليّات أو أنماط تكيَف مع الشح العاطفي الذي يعانون منه؛ مما يخفف الألم النفسي عنهم، ويعينهم على التعايش.

  ومع استمرار بقائهم في دائرة هذا النمط التكيُّفي، تقل رغبتهم في إعادة الاتصال مع آبائهم والآخرين من حولهم. ويمكن اعتبار هذا التكيف تهميشًا لدور النصف الأيمن في المعالجة لمصلحة النصف الأيسر من الدماغ للحد من حساسيتهم العاطفية.

وكلمَّا نضج إدراك الطفل العلاقات من حوله -خصوصًا عند الاقتراب من القدرة على الحكم بموضوعية في عمر السابعة تقريبًا- فإنَّ وجود شخص عطوف ومحب للطفل يفعّل لديه الألم المكبوت لافتقار الحب والتواصل السوي من أبويه؛ مما يدفعه لتجنب ذلك الشخص تجنبًا للألم الناتج عنه، أو قد يحتفظ بعدد معين من الأصدقاء والأقارب، ولكن ستظل تلك العلاقات مهمشة بالنسبة له، وغير مهمة، بل وسطحية؛ تجنبًا للألم عند إدراك التناقض في العلاقات من حوله؛ وعلى ذلك سيولي اهتمامًا كبيرًا بتلك العلاقات الفجة.

وفي حال ظهور هذا النوع من الاستجابة باعتباره تكيُّفًا صحيًّا في مرحلة مبكرة، فإنَّ هذه الاستجابة قد تكون معيقة في تكوين علاقات عاطفية صحية حينما تطغى الاستقلالية إلى الحد الذي يشعر فيه شركاؤهم بالعزلة والجفاف العاطفي.

وعلى الرغم من سلوكياتهم وتعليقاتهم التي تقلِّل من أهمية الارتباط أو التعلق، فقد أثبتت الأبحاث أنَّ لديهم تفاعلاتٍ فسيولوجية جيدة عند مناقشتهم لمشكلات التعلق، مما يعني أنَّ نظام التعلق الفطري لديهم لا يزال يقدّر العلاقات، وعقولهم تعتبر بأهميتها حتى وإن بدت أفعالهم غير مكترِثة بالارتباط.

ومِن المؤسف أنَّ تكرار هذه السلسلة من الارتباط أو التعلق قد يستمر حتى مع أطفالهم، بمعنى أنَّ أولئك البالغين الذين لم يتمتعوا بتواصل وعلاقة وثيقة مع آبائهم أو مقدمي الرعاية لهم واتجهوا للاستقلال والاعتماد على ذواتهم، غالبًا ما تكون علاقاتهم مع أطفالهم تجنبيّة، وقد يجدون أنَّ مشكلتهم في ماضيهم مع التواصل والجهاد للاستقلال -في أوج الحاجة للتواصل والارتباط- تدفعهم للغضب من عجز أطفالهم وضعفهم، والأمر الذي بدوره يزيد من تعقيد المشكلة هو أنَّه لديهم ضعف في فهم إشارات أبنائهم، فَهُم -كما أسْلَفْنَا- عانوا من قلة التحفيز للنصف الأيمن، مَا يعني ضعف التواصل التعاطفي مع الآخرين، وهكذا تستمر الدائرة في التكرار إلى أجيال متلاحقة، ربما حتى يأتي من يخرج عن تلك الدائرة ببدء تواصل تعاوني عاطفي صحيح.

خاتمة: لعلَّ خلق تواصل وثيق بين الآباء وأطفالهم من أكثر التجارِب التربوية صعوبة، فبعضهم يصطدم لأول مرة بحقيقة أنَّ تلك الأنماط التي حمته في طفولته هي من تُضعِف قدرته على شق طريق آمن للتواصل وتربية أطفاله؛ ولذلك لا بدَّ من معالجة كل تلك المشكلات العالقة في الماضي، وإعادة التأسيس للاتصال، فقد تكون الرحلة شاقة، لكنَّها جهد مستحق ومثمر لخلق حياة متوازنة، وعلاقات صحية يقدِّر فيها الأطفال قيمة ذواتهم، ومنطقهم، وعواطفهم، ويدفعهم ذلك إلى الانطلاق نحو العالم بثقة.

المراجع:

  1. Siegel and Bryson(2012). The Whole-Brain Child
  2. Parenting from the Inside out Siegel and Hartzell (2013).
  3. Fernando, Joseph (2011). The Processes of Defense