التعاطف : ما أهميته وكيفية بنائه لدى الأطفال؟

أعدته: غيداء جمعان

دائمًا ما أتحدث عن الأنشطة الجماعية كحقل من حقول التجارب التي نختبر فيها مهارات أطفالنا وأفكارهم، ونشهد في وسطها تطورهم البدني أو العاطفي أو المعرفي، وهي تقيس حتى أداءنا نحن معهم وما نتوقعه من أطفالنا.

 في واحدة من تلك الأنشطة الجماعية التي شهدتها كانت اللعبة تحث على جمع أكبر عدد من الكرات الملونة المتناثرة في الملعب، ووضعها في السلة الخاصة لكل طفل. في منتصف اللعبة سقط أحد الأطفال وانتثرت كراته في الملعب، فما كان من أحد الأطفال إلا أن قام بسرعة بالتقاط الكرات التي سقطت مع جميع الكرات المتناثرة من حوله وضمها إلى سلته.

تأثر الجمهور المتفرج بالموقف كاملًا، وفي خضم هذا بدأ الحديث مع من بجانبي، وهي والدة الطفل الذي انتهز الفرصة عند سقوط الطفل الآخر. إذ بدت ككل الآباء القلقين بشأن ألا يكون لدى طفلهم القدرة على التعاطف أو مراعاة مشاعر الآخرين في أزماتهم، وأن يكون أنانيًا بالمطلق.

أولًا إلى ماذا نود إعادة توجيه إدراك تلك الأم؟

في الحقيقة من الطبيعي والصحي أن يقيّم الأطفال الموقف لتقديم أنفسهم، أولًا فهذه غريزة تبقيهم أحياء، ولنعتبر أن هذه هي البداية التي سننطلق منها وتبعدنا عن تأطير أفعال الطفل تحت مسمى الأنانية، وحتى عندما لا نرى في أطفالنا الصفات والمهارات التي نحب أن يكونوا عليها، سنجتهد لتجنب الحكم عليهم سلبًا؛ لأنه دائمًا ستكون هناك فرصة لتنمية القدرة على التغلب على الميل الفطري لهذا الانحياز الأناني العاطفي.

لأننا كذلك نطمح أن نظل مراعين ومطمئنين بأن الجزء الرئيس من المخ المسؤول عن مهارة التعاطف لا يزال تحت التطوير لدى الصغار، ويمكننا دائمًا تعليم الأطفال مهارة التعاطف مثل بقية المهارات، بل وربما عندما لا يظهرون التعاطف بما يكفي يعني أنه من الممكن أنهم لم يمنحوا الوقت الكافي لممارسة تلك المهارة. فالمخ يتغير بالمرور بالتجارب الاجتماعية المختلفة التي تدور حول التعاطف وإدراك مشاعر الآخرين والعناية بهم، التي بدورها تقوي الدوائر العصبية المسؤولة عن التعاطف في الدماغ، وتوجد في أجزاء مختلفة منه.

لماذا نهتم بإكساب الطفل مهارة التعاطف؟

المتعاطفون يركزون على الأخلاق، فالعاطفة الرئيسية التي تدعم الشعور بالصواب والخطأ، تظهر مبكرًا لتشكل الطريق للتطور الأخلاقي لدى الأطفال الصغار.

والتعاطف يساعدنا على التعامل مع الأخلاق الدقيقة لمعرفة التصرف الصحيح في موقف معين والعمل بما يجب فعله، لأنه مهم من ناحية أخلاقية مراعاة مشاعر الآخرين والاعتبار بوجهة نظرهم، فالتعاطف هنا ضروري لفهم الإجراء الصحيح. حيث إن ضبابية الرؤية تجاه ما سيكون عليه الآخرين عند اتخاذ الفرد موقف معين يصنع حالة من القلق.

لذا هم يمرون بما يسمى بالاستبصار الذي يركز على المحافظة على الوعي بأنفسهم ومراقبة مشاعرهم وعالمهم الداخلي بأنفسهم مما يعينهم على أن يكونوا أكثر مراعاة وتفهمًا وتقبلًا لمن حولهم وأقل غضبًا وانتقادًا لهم. هذه المراقبة المستمرة تجنبهم فقدان السيطرة على ردود أفعالهم مما ينظم سلوكهم وردود أفعالهم، ليس تجاه أنفسهم وما يشعرون به، بل تجاه الآخرين أيضًا.

حيث تنبثق الأخلاق من التفاعل مع بعضنا بعضًا، لأنه عند حدوث التفاعل يتاح لنا معرفة ما يتوقعه الآخرون منا، وبالتالي ندرك كيف يجب أن نتصرف نحن والآخرون، مثلًا تعلمت ألا أشتم صديقي لأن ذلك يجعله يشعر بالسوء تجاه نفسه، ولأنني كذلك أشعر بالغضب والحزن عندما يشتمني أحدهم. وقد شعرت بالذنب لأنني وضعت نفسي في موضع الضحية، واعترفت بأني المسؤول الأول عن حزنه. وكذلك تعلمت أن أقدم المساعدة لصديقي؛ لأنه سيعشر بالسخط أو الخيبة عندما لا أستجيب لمد العون له، وأعلم جيدًا أن من حقه الشعور بهذا. وبذلك من خلال التفاعل والتعبير عن الحالة العاطفية التي قد تُحدثها خِبرة ما، وباستيعاب كومة المشاعر للشخص الذي يتفاعل معنا، نتعلم مضمون معاييرنا الأخلاقية. ليس ذلك فحسب، بل ندرك أهمية الآخرين لنا، مما يسمح بتأسيس روابط اجتماعية مع الآخرين يعزز التعاطف من تماسكها.

صحيح أن هناك استثناءات لكون التعاطف قد لا يبدو منطقيًا لبعض المواقف، إلا أن هناك عديدًا أيضًا منها تستند على وجوب التعاطف لتشكيل التصرف الأخلاقي.

وهذا المرور بالاستبصار ثم التعاطف يفضي إلى ما يسمى بالتكامل، أي أن يدرك الطفل مشاعر الآخرين دون أن يفقد هويته الفردية. بمعنى أن كل واحد منا مختلف عن الآخر، لكننا نتأثر ونؤثر بالآخرين الذين يعتبرون جزءًا منا. وأنا جزء من مجموعة ولست وحدي، وبهذا الإدراك يصل الطفل إلى الذات المتكاملة التي تخلق الموازنة بين ذاتها والآخرين، فتهتم بهم من دون أن تفقد تمايزها. وتحيا بالتواصل مع علاقات عميقة ذات معنى، وتستشعر دائمًا وجودها وسط جزء من مجموعة كبيرة مترابطة.

كيف نكسبهم مهارة التعاطف؟

  • تفعيل نظام المشاركة الاجتماعية:

أي انفتاح الطفل على استقراء مشاعر الآخرين وإشاراتهم اللفظية وغير اللفظية، واستعداده لإبداء التعاطف والاهتمام بما يناسب الموقف. هذه المشاركة لا تعين الطفل على العناية بأمر الآخرين فحسب؛ هي تعينه على التموضع حسب الموقف بمعنى سيكون الطفل بهذه المهارة مدركًا للطابع العام الذي يطغى على المجموعة وهو في وسطهم، سيشعر متى عليه التحدث أو الإنصات أو توجيه المحادثة لموضوع آخر لأن أحدهم بدا مستثارًا أو في حال مزاجية سيئة.

هناك عديد من الطرق لتنمية وتفعيل نظام المشاركة الاجتماعية، واحد من أهمها هو معاودة طرح الموقف وإدارة الفضول حوله، مثلًا: عند انسحاب أحد الأطفال من اللعبة غاضبًا أعد توجيه الطفل للتساؤل بود حول حالته الشعورية. ما الذي يشعر به؟ يبدو غاضبًا؟ حزينًا؟ أتساءل ما الذي دفعه للانسحاب والغضب.

يساعد هذا الأطفال على الربط بين الفعل (السبب) ورد الفعل (الصديق الغاضب الحزين). وفهم هذا الاختلاف في المشاعر بين الطفل ومن حوله من خلال إعادة الصياغة وبث الفضول حول الحادثة يوجه ردة فعل الطفل على ما حدث باتجاه التقبل والتفهم، بدلًا من إقامة اللوم على غضب الطفل وانسحابه وتسببه في إفساد اللعبة وإدانته بذلك.

  • بناء لغة التعاطف:

للتواصل نحتاج إلى لغة مناسبة لكل حالة، ولتطوير مهارة التعاطف أيضًا يحتاج الطفل إلى صياغة جمل أو مفردات تشرح وتقدّم تعاطفه للغير. وقد نجد هنا أن بناء اللغة بما تعنيه بمفرداتها اللفظية يجر معه عدة مهارات تعزز التعاطف، كالإنصات للآخرين قبل تقديم المشورة، أو حتى تقييم الحالة والاكتفاء بالاعتراف بالمشاعر ومشاركتها دون تقديم النصائح، والاهتمام بلغة الجسد والإشارات غير اللفظية التي نرسلها أثناء الاستماع للشكوى. ثم الأساليب المختارة للتعبيرعن التعاطف مثل: استخدام الضمير “أنا”، والتحدث عمّا يشعر به هو قبل التركيز على ما فعل الآخر له، واستخدام الضمير “أنت”. فالأكثر جدوى هو قول “أشعر بالغضب لأنك لا تعيد ألعابي إلى مكانها بعد الانتهاء منها”، بدلًا من “أنت تترك الألعاب متناثرة وتسبب الفوضى في كل مرة تلعب بها”. أو عندما يدفع الطفل أحدهم في الوحل، فالأفضل لمثل هذه الحالة هو قول “آسف ظننت أن الأمر سيكون ممتعًا بالنسبة لك، اعلم أني فاجأتك بدفعك نحو الوحل وضجرت من تلطيخ ملابسك به، ولم يكن عليّ فعل ذلك”. بدلًا من الاكتفاء بتقديم كلمة “آسف”.

 تتطور لغة التعاطف لدى الطفل في مرة يخوض فيها موقفًا يتطلب التعاطف حتى لو كان هو من يجب تقديم التعاطف له، وهذه فرصة جيدة لتنمية لغة الطفل بالكلمات والأساليب المناسبة، وسيستشعر حينها أثر الكلمة الطيبة والتعاطف مع حالته الشعورية. أو حتى قد نلعب معه لعبة تبادل الأدوار ونطرح على الطفل سؤال عن صورة أو دمية تظهر أحد المشاعر لتعزيز لغة التعاطف لديه، وتدريبه على سرعة إنشاء الرابط بين تجربته الخاصة وتجربة الآخرين.

  • توسيع نطاق الاهتمام:

لبناء التعاطف لدى الطفل وتأسيسه، عليه فإننا نطمح ألا يقتصر تعاطفه مع أقرب دائرة اجتماعية تحيط به كالأسرة والأقارب والأصدقاء، التعاطف يشمل حتى من لا يرتبط بالطفل بعلاقات مباشرة، وهذا ما نحاول إيصال الطفل إليه، فعند تمكنه من النظر إلى أبعد من ذاته وقراءة ما يشعر به الآخرون سيكون قادرًا على مراعاة أولئك البعيدين عنه ومحاولة استيعاب معاناتهم.

وعديد من الطرق لتوسيع نطاق اهتمام وتعاطف الطفل، ومن أيسرها محاولة دمجه في مجتمعات من خلفيات ثقافية متنوعة ومختلفة عنه، بدءًا من مشاركته اللعب والأنشطة مع أطفال الجيران في الأحياء المجاورة، أو الخروج للمكتبات العامة والفعاليات الثقافية الجماعية، أو حتى إدارة نقاش معه حول الكوارث أو الأحداث العالمية التي يتداولها الناس عما يحدث لأولئك الذين يعيشون في الحروب، فكيف يشعرون يا ترى؟ وما الذي يحتاجون إليه؟ كيف يمكن مساعدتهم؟ وسيرحب الطفل بالانخراط في تلك الأنشطة التطوعية التي تساعد المحتاجين أو تبصّر الطفل بواقع الصراعات التي يكابدها الآخرون كزيارة دور الأيتام أو المرضى، ستكون أيضًا فرصة يعي الطفل منها معاناة أطفال مثله يعيشون بواقع مختلف عنه، وبمجرد حدوث ذلك سيكون الطفل قادرًا على بناء التعاطف على نطاق أوسع.

لكن الأهم هنا هو مراعاة عمر الطفل وخصائص نموه لتجنب تعريضه لأكثر مما يمكنه تحمله واستيعابه.

ولا تقتصر أساليب التدريب على مهارة التعاطف بما ذكر، فالأكيد أن هناك طرقًا مختلفة ومتنوعة، وبعضها بسيط ونشهده في برنامجنا يوميًا، فتنمية هذه المهارة قد يتحقق حتى بالتفاعل اليومي في الحديث مع الطفل دون وضع خطة ممنهجة أو أساليب محددة. المهم دائمًا ألا نضع توقعات عالية على الطفل بشأن تطبيق المهارة، فحتى البالغون منا يواجهون مشكلة في التعبير عن مشاعرهم أو ترجمة تعاطفهم مع الآخرين بأقوالهم أو أفعالهم. لكن الثبات والاستمرار في تعليم الطفل مع الممارسة وتطبيق  أساسيات التعاطف تدريجيًا في البداية يكفي الطفل لتأسيس لغة ومهارة تعاطف تسنده لتكوين علاقات متينة وداعمة يزدهر في وسطها.

المراجع:

Siegel,J.&Tina,B.(2019).The Yes Brain: How To Cultivate Courage, Curiosity, And Resilience In Your Child. (pp138-146) New York: Bantam.

Carme Isern-Mas,Antoni Gomila.(2019). Why Does Empathy Matter for Morality. Análisis Filosófico (Sociedad Argentina de Analisis Filosofico),- Vol. 39, Iss: 1, pp 5-26.

.Begley,S& Kalb,C.(2000).ETHICS