كيف تؤثّر رعاية الأبوين على صحة الطفل وحياته الاجتماعية؟

كتبته: غيداء جمعان

مرحلة الطفولة المبكرة أهم مراحل حياة الإنسان باعتبار السنوات الأولى، فيها أساس بناء الفرد اجتماعيًا وعقليًا ونفسيًا وجسديًا، مؤخرًا أصبحت ألمس وعي الناس بأهميتها أكثر من السابق، لكن ما زال هناك الكثير من الممارسات الخاطئة التي يرتكبها الأهل مع طفلهم خصوصًا فيما يتعلق بمفهوم التهذيب.

يخطئ الآباء المرتبكون المتحيرون حين يأملون أن العقاب يؤدي إلى نتائج في آخر الأمر، ولا يدركون أنهم في الواقع لا يصلون إلى أي شيء بطرقهم تلك. استعمال العقاب يساعد الطفل على تنمية قوة أعظم للمقاومة والرفض” ( رودولف دريكورس، هوثورن 1964  كتاب الأطفال: ذلك التحدي)

هل يعني أن يترك الطفل دون تهذيب؟ لا؛ التهذيب جزء أساسي من عملية التربية التي تستنزف الأبوين فكريًا وعاطفيًا، وتتطلب الكثير من الصبر والتضحيات والالتزام،  كما أنها تتأثر بعدة عوامل مرتبطة بشخصية الأبوين ونمط تنشئتهم، وتمر بالكثير من الصراعات بين الطفل ووالديه؛ خصوصًا في حالة الطفل الأول الذي يجرى عليه الكثير من الاختبارات لاختيار الأسلوب الأنسب لتهذيبه.

إن ما دفعني لكتابة هذا المقال هو إيمان أحد الأمهات بنفعية الضرب؛ حيث تقول: إن هدفها من وراء ضرب طفلها والسماح له بضربها هو تسليحه بهذا المفهوم العنيف؛ الذي سيساهم في بناء شخصية قوية تستعمل العنف والضرب تحديدًا لاسترداد حقها، بل وتعتقد أيضًا أن هذه الوسيلة -الضرب- قد تحميه حتى من الاعتداء على جسده بأي صورة.

وهنا نجد عدة مشكلات؛ الأولى: هي تبني الضرب كأسلوب للتهذيب، والثانية: تجاهل عاقبة اعتياد الطفل على ضرب أمه، والثالثة: التعريف الخاطئ لمعنى “الشخصية القوية” والمصوّر بالعنف والأسلوب الجاف في التعامل مع الآخرين؛ والذي تلحقه عواقب وخيمة سنذكرها في آخر المقال، والرابعة: تعويد الطفل على استقبال الضرب وتشجيعه لاستعماله لحماية حقوقه وجسده، وهنا تختبئ حقيقة لا ندركها مباشرة وهي أن الطفل عندما يعتدى عليه بالضرب ويلحقه الألم النفسي والجسدي معًا من أبواه اللذان يمثلان مصدر الأمان له ويرسمان أقرب دائرة اجتماعية تحيط به فإن الصورة الكبرى في ذهنه عن قدسية جسده تصبح مشوشة بسبب العنف فيتزعزع ويضعف مفهوم الطفل عن حرمة جسده ووجوب حمايته له لأن أعظم وأهم شخصان في حياته عرضوه للإهانة ولم يحترما جسده فكيف له أن يشعر بحجم الأذى الموجه له من المعتدي على جسده؟

الضرب هو الأسهل والأكثر تأُثيرًا على الطفل

الأبوان اللذان يختارون الضرب للتهذيب لا يدركون بالفعل إلا التأثير اللحظي له حيث إنهم دائمًا  يرون استسلام الطفل وخضوعه لتنفيذ الأمر المطلوب منه بسرعة أو بعد القليل من المقاومة والرفض بعد تلقي الضرب فيعتقدون بذلك أنهم أصابوا الهدف لكنهم يجهلون التأثير السلبي بعيد المدى، الضرب كحقيقة هو الأسهل والأكثر تأثيرًا على مستقبل الطفل ونضجه النفسي والانفعالي والاجتماعي وحتى على نموه العقلي.

تأثير العنف على نمو الطفل العقلي وصحته العامة

من الممكن أن يصاب الطفل بمشاكل صحية عقلية مثل القلق والاكتئاب وفرط النشاط وتشتت الانتباه نتيجة استعمال العنف ضده بشكل عام؛  حيث إن البيئة التي ينمو فيها الطفل لها تأُثير حقيقي ودائم على نموه وتطور الدماغ والجهاز العصبي لديه لأنه عندما يصبح الطفل في حالة قلق وتيقظ للخطر ناتج عن ترهيبه أو ضربه تنتج الغدة الكظرية هرمونات الشعور بالضغط وهي الإدرينالين والكورتيزول فتزداد ضربات القلب ويرتفع ضغط الدم وعندما تحدث هذه العملية بشكل مستمر نسميها ” الإجهاد/ الضغط المؤذي” الذي يضعف الجهاز المناعي وتطور الدماغ الذي يتأثر بقلة صنع الروابط العصبية حيث أن لكل خلية عصبية اتصالات متعددة بالخلايا العصبية الأخرى هذه الوصلات تسمى المسارات العصبية وتشبه نظام الأسلاك الكهربائية.

في دراسة أخرى طلب من طلاب في جامعة هارفرد أن يحددوا مدى قربهم من والديهم ثم بعد 35 سنة سألوا نفس الطلاب عن صحتهم فوجدوا أن 91% من الطلاب الذين كانت علاقتهم بأمهم متوترة وضعيفة يعانون من مشاكل صحية كارتفاع ضغط الدم وإدمان الكحول ومرض الشريان التاجي، بالمقابل أولئك الذي كانت علاقتهم مع والدتهم جيدة وجدوا أن 45% منهم فقط يعانون من مشاكل صحية.

تأثير العنف نفسيًا ونظرية الترابط “Attachment theory

الاهتمام العاطفي والبعد عن العنف بصوره المتعددة ضروري لبناء أرضية نفسية واجتماعية سليمة للطفل حيث أجرى عدد كبير من الباحثين سلسلة من التجارب والدراسات لفهم طبيعة النمو العاطفي والاجتماعي لدينا الأمر الذي نتج عنه لاحقا نظرية الترابط “Theory Attachmen”  للطبيب والمحلل النفسي جون بوبلي “John Bowlby” ويقصد بالتعلّق هو مجموعة المشاعر والروابط والرغبات الحميميّة التي نخلقها ونبنيها مع عنصر التعلّق وهو الشخص الذي يمنحنا وجوده الأمان – كالأبوين أو مقدم الرعاية الأولية كالجدة أو أحد الأقارب أو الحاضنة- ويتسبّب غيابه لنا بمشاعر سلبية كالخوف والقلق فإذا كانت علاقتنا مع هذا الشخص آمنة سنشعر بالطمأنينة لاكتشاف العالم من حولنا.

أنماط نظرية الترابط

نمط الترابط المستقر ، قلق/مُقاوم، قلق/متجنّب، قلق/مُشوّش أو مضطرب

بشكل عام تنشأ أنماط الترابط غير المستقرّة نتيجة الممارسات الخاطئة في التربية كالضرب للتهذيب و الصراخ والتوبيخ أو الإهمال و عدم الاعتراف بمشاعر الطفل وتقبلها والتعامل معها بالطريقة المثلى.

ينشأ نمط القلِق/ المقاوم  بسبب شعور الطفل بالحاجة الدائمة لشحذ العاطفة والاهتمام من والديه عن طريق الصراخ أو البكاء وعندما يلقى أخيرًا الاستجابة المنتظرة منهم يدفعه ذلك لإخفاء مشاعره الحقيقية والتصرف بتردد.

أما القلِق/ المتجنّب فهو نتيجة التضيق على الطفل عند تعبيره عن نفسه ومشاعره أو احتياجاته والاستجابة لذلك التعبير بالضرب أو الصراخ والغضب مما يجعل الطفل مرتبك وقلق تجاه شعوره فيختار تجنّب التعبير عن احتياجاته لكي يحمي نفسه ويجنّبها الشعور بالخوف الذي يأتي كردة فعل على تصرف والديه أو مقدم الرعاية له.

أخيرًا القلِق/ المُشوّش أو المضطرب ينشأ عندما يرى الطفل والديه غاضبين، أو في حالة مزاجيه تثير الرعب في نفسه، في تلك الحالة يوجهه عقله للجوء لمصدر الأمان الوحيد و الأول له وهما والداه؛ واللذان هم في الوقت ذاته مصدر الرعب، هذا الموقف يشوش ويعبث في إدراك الطفل في حال كان حادًّا أو متكررًّا؛ لأنه يجعله يعيش صراعًا مع أفكاره تجاه الحب والأمان ويشعره بالخوف الذي لا يستطيع إبعاده.

كيف تؤثر رعاية والدينا العنيفة لطفولتنا في حياتنا الاجتماعية لاحقًا ؟

ينتج النمط المتجنّب شخصًا لديه مشكلة في تكوين العلاقات إلى جانب ضعف تقدير الذات لديه والنظرة السلبية عنها والتي يشاركه فيها النمط المقاوم. أما نمط القلق/ المضطرب فينتج شخصًا يرى دائمًا أنه لا يستحق الحب ممن يحيط به خارج وداخل العائلة. ويخلق الضرب والعنف بكل صوره شخصية مهزوزة الثقة بنفسها وبالآخرين لأن المصدر الذي تلقى منه الضرب والتهديد هما الأبوان اللذان من خلالهم يتعرّف الطفل على نفسه ومحيطه. بالإضافة إلى أن الطفل يشعر بأهميته عند أبواه فعندما تتوتر هذا الروابط بينه وبين أبويه نتيجة العنف يظن الطفل حينها أن هذا الأٍسلوب هو فعلًا ما يستحقه و أنه الأنسب للتعامل مع المحيط الاجتماعي خارج وداخل المنزل.      أما الطفل الذي وجد الترابط المستقر مع أبواه فإنه قادر على تكوين صداقات داخل الروضة وهذا يجعله يشعر بالإيجابية تجاه نفسه ومكانته بين أقرانه ويساعده في صنع روابط اجتماعية جيدة في المدرسة والجامعة والعمل مستقبلًا.

وبالعودة للتعريف السابق لـ “للشخصية القوية ” فإن تنشئة الطفل على الصورة المغلوطة لهذا المفهوم ينتج شخص عدائي دائرته الاجتماعية ضيقة جدًا إن لم تكن غير موجودة. ولاستيعاب الفكرة أكثر تخيل معي المشهد طفل بعمر ست سنوات يتلقى الضرب في منزله على أتفه الأمور وجلها وتربّى على فكرة استرداد حقه بقوة العنف،  يومًا ما في الروضة أخذ زميله قلمه في غفلة منه فانتبه له واسترده بعد أن صفع زميله…يستمر المشهد وتداعياته بالتكرار ومع الأيام سنلاحظ أن أسلوب الضرب أصبح لا إراديًا عند الطفل فيضرب بقية الأطفال عند اللعب ويضرب للفت انتباه معلمته ويضرب ليعبر مشاعره لأن هذا ما نشأ عليه بين أبويه.  والأجواء المشحونة التي تتبع تصرفات هذا الطفل تدفع بقية الأطفال لمعاداته وتكوين جماعات ضده قد تؤذيه بالتنمر عليه والإساءة له بأيّ شكل، فيبدأ الطفل بالدخول في دوامة الجنوح والقلق والاكتئاب ونلخص حالته الآن تحت مصطلح “الإيذاء المتعدد” والذي يقصد به أن الأطفال الذين يشهدون العنف كوسيلة لحل النزاعات، أو يواجهونه كأسلوب للتهذيب في المنزل هم أكثر عرضه لاستخدامه في المدارس وغيرها وبالمثل، فإن خطر التعرض للإيذاء داخل المنزل أو المدرسة يزيد من تعرض الأطفال لأشكال أخرى متعددة للعنف كالتنمر والاعتداء الجسدي داخل المجتمع.

ذلك الطفل نفسه سيكره المدرسة ويتعزز العنف في داخله أكثر لكي يحصن نفسه من الأذى الخارجي ويبقى يدور في هذه الحلقة المفرغة التي تلهيه عن بناء مستقبله وتعرقل نموه الاجتماعي والنفسي والعقلي وهو لا يعلم أن المتسبب في ذلك هما أبواه. فيكبر الطفل وهو مملوء بالعقد التي يصعب حلّها ثم يربي أولاده على ما تربى عليه وهكذا يستمر العنف الذي شبهه الطبيب قاري سلوتكين “Gary Slutkin” بالمرض المعدي الذي يجب أن نوقف انتشاره.

كيف نوقف انتشار العنف؟

تربية الطفل عملية تراكمية يجب أن ننتبه لكل خطوة فيها ونكثف جهودنا مع الطفل لنعلمه الكثير من المبادئ كالحوار وأساسياته والمفاهيم التي تسبق حدوث الكثير من الأفعال التي لا نحبذها، فبالعودة لمثال الطفلان داخل الفصل كان من المفترض تقديم مفهوم الاستئذان و الملكية العامة والخاصة للطفلين وتعويدهما على أسلوب الحوار للتفاهم فيما بينهما، والعودة لمعلمة الصف لحل النزاع فيما بينهما. ثم تحصينهما بمهارات الدفاع عن النفس لاحقًا للتصدي لمواقف أكثر حدة.

المراجع:

1-  Bordin,Bilyk,Goodman.(2005).Parental beliefs and child-rearing attitudes and mental health problems among schoolchildren.Rev. Saúde Públ,39(5),p(xx).

2- Russek, L. G., & Schwartz, G. E. (1997). Feelings of parental caring predict health status in midlife: A 35-year follow-up of the Harvard Mastery of Stress Study. Journal of Behavioral Medicine20(1), 1-13.

3-  Bowlby, John. Attachment and Loss. 1969.

4- Hazan, C. & Shaver, P. “Attachment as an organizational framework for research on close relationship.” Psychological Inquiry. 5 1-22, 1994.

5-  Shiva Kumar, A.,Stern,V.,Subrahmanian,R.,Sherr,L., Burton, P.,Guerra, N.,et al.(2017).Ending violence in childhood: a global imperative.Psychology، Health & Medicine,22(1),1-16.

6- (Daniel J. Siegel, The Whole Brain Child (2011