لا تسأل الأطفال هذا السؤال…

كتبته: غيداء جمعان

أحد أهم المفاهيم التي نسعى لتقديمها للطفل هو مفهوم العمل؛ فدينُنا حثَّ عليه، وحرص على ممارسته.  ولعل أهمّ ما ورد في بيان أهمية العمل، والحرص عليه: حديث  رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها “. وفيه دليل واضح على أهمية العمل، ومباشرته حتى في اللحظة التي لا يلوي أحد فيها على شيء.

والتحدي الحقيقي في تقديم مفهوم العمل للأطفال يتمثل في إيصاله لهم بطريقة متزنة؛ تبين العمل كقيمة مهمّة باقية ببقاء الإنسان، مهما تغيّر خلال الخط الزمني لعمره، وأن العمل بمسماه المندرج تحته مصطلح “المهنة”، أو “الوظيفة”  يبقى دورًا من أدوار الإنسان في الحياة، وليس هو الحياة كلَّها.

الأطفال ومفهوم العمل والمهنة: يحتفل الأطفال في معظم الروضات ودور الضيافة بما يسمى بيوم المهنة، فيرتدي الطفل في ذلك اليوم زيَّ المهنة التي يحلم أن يمتهنها عندما يكبر، ويردد الكبار على الصغار في ذلك اليوم سؤالًا واحدًا: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟  يُطرح ذلك السؤال بنيّة حسنة، ويستمتع الكبار بالاستماع لتلك الأحلام التي يتحدث عنها الصغار، ويبالغون في تعظيم المظهر الذي يبدو عليه الطفل؛ تشجيعًا لهم وتحفيزًا. وكلما شهدت ذلك اليوم أخذت أفكِّر: ما الذي نسعى لنصل إليه من خلال سؤالنا الطفل عمّا يحب أن يكون حين يكبر؟  وهل هذا الاحتفال المنطوي تحت ذلك السؤال، هو بالفعل ما يحتاجه الأطفال لاستبصار واستكشاف ما سيكونون عليه مستقبلًا؟ إن كل ما نفعله في هذا اليوم  مع الأطفال هو رسم صورة مثالية لإحدى المهن المختارة للطفل، وعادةً ما يختار الطفل مهنًا مرموقة في مجتمعه؛ يخيل إليه أن هذه المهنة هي ما سيجعل له قيمة ومكانة في مجتمعه، وتستطيع أن تكشف ذلك التبجيل من ملامح وانفعال الأطفال حين يصفون المهنة المختارة. وهذه فطرة الأطفال في النظر للمستقبل، ووصف الأحلام، وهذا تحديدًا ما يجعلني أقف كثيرًا عندما أقدِّم للأطفال مفاهيم كبيرة متعلقة بمستقبلهم؛ فأنا لا أريد وضع نموذج ومثلٍ عالٍ في طريقهم قد يصادم واقعهم غدًا، أو يكون ضيقًا جدًا أمام واقعهم الفسيح.

إن وضع نماذج محددة للمهن، وتكرار سؤالهم عنها، عامًا تلو عامٍ، يرسخ في عقول الأطفال أن هناك نقطة نهاية ينبغي الوصول إليها ثم ينتهي التعلم! وأن المهمّ في هذه الرحلة أن تنتهي بك إلى مهنة محددة مرموقة في نظر المجتمع، أو أنَّ هذا هو الهدف النهائي للحياة.  وهذا قد يضعف العزيمة للوصول إلى الحلم؛ لأننا حين نعكف بقلوبهم على الغاية (المهنة) نحرمهم الاستمتاع بالوسائل إليها، وهذا يجعل طريق هذه الغاية طويلًا وشاقًّا.

تأطير المهن في أعين الأطفال: إن سؤال الطفل: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ يعزز الطرح المتضمن أنه يجب أن يكون لدينا  شغف حقيقي واحد في الحياة فحسب، بينما يوجد اليوم  الكثيرون من الذين وجدوا شغفهم في مجالات عِدّة، ولا يفضلون الانتساب لمهنة واحدة فقط. والمرهق في انتقاء المهن، وأطْر أحلام الأطفال لتحوم حولها، هو أن ذلك يسهم في تبنيهم لنموذج التفكير فيما إذا كانت الظروف والأمور من حوله تسير نحو الحلم أو الهدف بطريقة محددة أم لا؟ ويرتبط هذا بمفهومهم عن النجاح  عمومًا، وسيدفعه للسعي المستمرّ وراء الماديات؛ من حوافز وجوائز وترقيات، وعلى ذلك سينهار كليًّا عند أول عقبة تحول دون وصوله لتلك الصورة النمطية التي تلقاها في الصغر؛ التي تمثل قيمته، وتجسد له النجاح في الحياة ؛ وكل ذلك يحول دون انتباهه حول ما إذا كان يسير إلى ما يراه ملائمًا له هو، ويعكس قيمه العليا، ومبادئه أم لا. ومن جهة أخرى؛ فإذا بقى الطفل محصورًا في خياراته لتلك الوظائف والمهن، فهو حتمًا سيفهم أن ما دون تلك المهن المرموقة ليس بذي بالٍ، أو أهميته محدودة. وهذا ما  يفسر أنّا لا نرى طفلًا يختار أن يكون عاملَ نظافة، أو حدادًا أو نجَّارًا. ذلك لأن الطفل لقِّن سابقًا أن مفهوم العمل وأهميته، وواجبنا تجاهه؛ مقرون بتلك المهن المحدودة؛ التي يختار منها، أو يتعرف عليها كنماذج مثالية للمهن من سماعه لمن يثق بهم من معلميه وأهله. ثم إن هذه المهنة المختارة الآن قد لا تكون هي المهنة المناسبة للطفل، فالمستقبل مازال مجهولًا ، والأهداف تتغير باستمرار، ومتطلبات الواقع الحديث متسارعة، والطفل حين يشعر أن أحد أبويه فخور بهذا الهدف النمطي المقولب، سيشعره ذلك بالعبء الثقيل حال كانت ميوله فيما بعد مخالفة لرغباتهما

تعليم الأطفال صياغة أحلامهم: نحن نريد المزيد من المفكرين والمبدعين المنتجين. وهذا ما لا يقيسه أو يعين عليه سؤال عابر ينمذج العمل في مهن محدودة. وحتى ننشئ جيلًا جديدًا لا يعيد سعينا للصور المصطنعة في مسمياتنا الوظيفية، ويحمل مزيدًا من الرغبة والشغف للابتكار والتجديد، علينا أن ندع لهم حرية التخطيط لرحلة أحلامهم، والإمساك بمقود سفينة حياتهم، وأن يكتشفوا خفايا هذه الرحلة، يقدرون جهدها، ويعملون عليها.

و أن نعلِّم الطفل كيف يحلم، يعني علينا التركيز والتفكير فيما  عليه الطفل الآن وما يحتاجه اليوم، وأن نؤمن بأن ذلك يتطلب العمل المستمر مع الطفل.

حيث أن معرفة البالغ لنفسه وميوله مرهونة بعدد التجارب والخبرات التي مر بها؛ لذا واجبنا أن نوجه الطفل للمزيد من التجارب، ونتوجه نحن لتحليل لعبه ومهاراته، ونحدّد مواطن قوته، وندفعه من خلالها حتى لو كان في تسلسل مقصود بهدف تبصير الطفل على مدى سنوات الطفولة والمراهقة ماذا يحب أن يكون. والمهم بالفعل هو أن تكون الحياة ثريةً ومليئة بالتجارب والخبرات والأنشطة الاجتماعية المختلفة؛ التي يمكن للطفل أن يعيشها من الآن.

وليس على الطفل أن ينظر لما بعد مرحلته الحالية، فهو بأمس الحاجة لأن يفهم ما هو فيه الآن ويعمل له . أما غمس الطفل وإشغاله بصورته عن ذاته مستقبلًا، فإن ذلك يسلب منه جزءًا من طفولته، وجزءًا من اكتشافه لنفسه في هذه المرحلة؛ التي يعدّ فهم النفس وضبطها فيها مرتبطًا بالنمو السليم، والانتقال للمراحل التالية، ومرتبطًا بقوة إنتاجية ما تعلمه في المواقف اللاحقة.

ومن حق الطفل علينا أن نطرح عليه أسئلة تقرّبه من ذاته، ومن العالم، وتساعده على تنظيم أو فهم  قيمه العليا، مثل : ما الذي تود العمل عليه الآن لكي تصبح أكثر سعادة؟ ما الذي تسعى من الآن لتحسينه في العالم؟ أو ما هي المشكلات التي تواجه عالمنا، والتي قد ترغب في المساعدة في حلها؟  هذه الأسئلة لا تتجاهل مرحلته، لا تسبق عقله وروحه في الإجابة على قيم كبيرة لمستقبل مجهول، مصاغة في سؤال محدود.