نظرية النظم البيئية (Urie Bronfenbrenner)

ماذا تقول نظرية النظم البيئية عن حياة أطفالنا؟

كتبته: غيداء جمعان

نظرة إلى تأثير النظم البيئية على حياة الطفل:

ندرك أن السلوك البشري، وما يجعل الأطفال مختلفين في تفاعلهم، وانفعالاتهم، وسماتهم الشخصية، ونضجهم النفسي عن بعضهم سواء أكان بين أطفال العائلة الواحدة أم  في المجتمع الواحد؛ ما هو إلا نتيجة سلسلة معقدة من العوامل والمتغيرات التي شكلت حياتهم؛ وجعلتهم على ما هم عليه الآن؛ ولذلك يجب ألا ننظر إلى الطفل، وبيئته المباشرة المتمثلة في عائلته الصغيرة فحسب؛ بل يجب النظر أيضًا إلى تفاعل البيئة معه تفاعلًا أوسع؛ مما يستدعي أن نطرح سؤالًا، وهو:

هل نفهم تلك النظم البيئية في سياقات منظمة، تساعدنا في ضبط بعض المتغيرات المؤثرةعلى نمو الطفل؟

في عام 1979  اقترح عالم النفس الأمريكي الروسي (أوري برونفنبرينر Urie Bronfenbrenner) نظرية النظم البيئية بناءً على حقيقية أن البيئة والتفاعل الاجتماعي يأخذان دورًا أساسيًّا في التنمية البشرية؛ إذ شرحت النظرية خمسة هياكل مترابطة ومتداخلة، نظمها بحسب مدى تأثيرها على الطفل. فما هي تلك النظم؟ وكيف نراها مثمثلةً في أمثلة من واقعنا؟

النظام المصغّر (Microsystem)

هو النظام الأول الذي يتصل فيه الطفل مباشرةبأقرب شخص لديه، مثل: أبواه، وأشقاؤه، والمعلمون، وأقرانه في المدرسة. هذا النظام لقربه من الطفل، ولكونه الحاضن الأول له في مرحلة شديدة الحساسية، يحتم بناء علاقة آمنة بين الطفل وأبويه؛ لأن هذه العلاقة هي الأهم، والأكثر تأثيرًا في حياة الطفل، وكذلك يستوجب الوعي في انتقاء من يحتك بهم الطفل مباشرة، كالمعلم الذي من واجبات الأبوين فهم قيمه العليا، ومبادئه في تعليم الطفل، وأسلوبه في التهذيب. وعلى  النهج نفسه يكون الاجتهاد في محاولة استيعاب علاقة الطفل بأقرانه، واحتضانها، وتوجيهها.

وفي هذه الدائرة الاجتماعية تكون التفاعلات مؤثرة و ضرورية، وفيها تبني اللبنات الأساسية والأوليّة التي تعرّف الطفل على أسس التعارف على العالم الخارجي؛ فيستوعب نموذج التفاعل الاجتماعي القائم على التساوي بين الأخذ والعطاء، ومبدأ الحوار والتقبل، وتبيين الحدود الشخصية، وما هو مرفوض أو مقبول داخل المنزل أو خارجه.

ومن الجانب الديني الذي يعدُّ عماد حياة الطفل، ومنه يستمد مفاهيم كثيرة عن نفسه، وعن الحياة، ففي هذا النظام يتلقى الطفل التأسيس الصحيح لمعنى العقيدة، وهو ما يجعل تقديمها له في نموذج عميق، وصحيح مهمًّا للغاية؛ حتى تكون مرجعًا أساسيًّ لتقويم حياته.

ومعرفيًا: فإن هذا النظام يأخذ على عاتقه إمداد الطفل بالمهارات المعرفية التي تجعله قادرًا على التعلم، ومعالجة المعرفة، وتطبيقها، وتحليلها. وكذلك نفسيًّا: فمن هنا يبدأ الطفل بفهم مشاعره، وأسلوب التعبير عنها، حسبما يدعم هذا النظام مهاراته في التنظيم الذاتي والانفعالي. وعلى نفس الخطى تنمو كافة جوانب الطفل.

 النظام الوسيط  (Mesosystem)

النظام الوسيط هو نظام من النظم الدقيقة  التي تتضمن التفاعلات المتبادلة بين الأشخاص المختلفين في النظام الدقيق المصغّر للطفل. مثل: التفاعل بين أبوي الطفل، ومعلميه، أو بين أقرانه في المدرسة وبين أبويه وأخوته.

والطفل في هذا النظام أقرب ما يكون إلى المراقب، أو الملاحظ، لذلك العلاقة الطيّبة والسعي المستمر لإيجاد نقاط متفق عليها بين أبويه يساهم في بناء المفاهيم الصحيحة لديه حول معنى الأسرة، أو كيفية احتواء الاختلاف وتوجيهه، وتبعده عن الصراع المربك الناتج عن اختلاف أسس تنشئته لدى أبويه، فضلًا عن كونها تمكنه من الارتباط مع أبويه بشكلٍ آمن؛ مما يجعله قادرًا على بناء علاقات جيدة عند النضج؛ وتؤمن له مساحة هادئة للتعلم، واستكشاف العالم من حوله.

وفي إطار العائلة يؤثر أيضًا أسلوب تعامل الأبوين مع أخوة الطفل على ما يفهمه الطفل عن علاقته بأبويه، وما إذا كانا يميزان أحد أخوته عليه؛ فتنشأ فيه تراكمات نفسية تعيق نموه نفسيًّا، و معرفيًّا، واجتماعيًّا بشكلٍ سليم. أو كانا أبواه واعيين بتأثير التفرقة بين الأبناء، فيكون العدل في العطاء أساسًا ثابتًا يُعين الطفل على بناء علاقة أخوية متينة، وصرفه؛ لاكتشاف نفسه والعالم بأريحية مطلقة.

ولعلاقة أبوي الطفل بمعلمه  التأثير نفسه؛ فالروابط الجيدة فيما بينهما تنعكس على مهارات الطفل، وأدائه الأكاديمي؛ لأن المعلم على اطّلاع مستمر بما يحدث في حياة الطفل خارج المدرسة، وواعٍ بمهارات الأبوين وقيمهما العليا اللاتي يسعيان لتنميتها لدى الطفل، والعكس صحيح.

وهذه العلاقة الإيجابية فيما بين الأبوين والمعلم ترفع من توقعات المعلم تجاه قابلية الطفل للتعلم والنمو؛ مما يزيد من دافع المعلم لتطوير الطفل؛ لأنه يعمل بجهد منظّم مع أبوي الطفل، ويستطيع أن يلمس بانتظام أثر جهوده على الطفل.

 النظام الخارجي (Exosystem)

لا يوجد تفاعل مباشر بين الطفل والعامل المؤثر في هذا النظام. لكنه يؤثر على النظام المصغّر للطفل، ومن ثمَ  يؤثر على الطفل بصورة غير مباشر، مثل أماكن عمل أبويه اللاتي قد يلقى فيها الأبوان ترقيات، ونمو وظيفي،  وزيادة في الراتب، تساهم في زيادة  المشاعر الإيجابية لدى الأبوين، فيصبحان قادرين على تلبية الحاجات العاطفية لطفلهما، وكذلك المادية بجودة أعلى.

وقد يجد إحداهما أو كلاهما بيئة عمل ضاغطة نفسيًّا، تعيدهما إلى المنزل بمشاعر كبت وغضب، قد يتلقاها الطفل، ويتأثر بتبعاتها؛ أو قد يقضي أحد الأبوين ساعات عمل طويلة خارج المنزل، تغيّبه عن الطفل، فتؤثر على روابط علاقته به وتقصي بعض احتياجاته.

ومن داخل علاقات الأبوين تؤثر دائرة الأصدقاء على نمط تفكير الأبوين حول الحياة، ونمط العيش بشكل عام، أو حول التربية بشكل خاص؛ مما يؤثر على ذلك الطفل سلبًا أو إيجابًا.

وعلى نطاق أوسع تعد كذلك وسائل الإعلام أحد أهم العوامل المؤثرة على النظام المصغّر للطفل، وعلى الطفل نفسه حتى لو كان المحتوى غير موجه له بصورة مقصودة.

النظام الكلي (The Macrosystem)

هو النظام المكوّن من السياقات الثقافية المؤثرة في الطفل، والتي تحدد نمط حياة أسرته.

ففي سياق المكانة الاجتماعية  تعدُّ الأسرة أهم وسيط في عملية التنشئة الاجتماعية للطفل، فتحدد مركزه في النظام الاجتماعي بشكلٍ كبير.

 فوجود الطفل في عائلة غنية ذات مكانة اجتماعية مرموقة عادة ما يعني جعل التعليم الجيد في المرتبة الأولى لديه، وفي المقابل يسعى الطفل الذي لم يُوجد في أسرة تمتلك تلك الامتيازات لتلبية أساسيات العيش، كالغذاء، والأمن والسلامة.

و للهوية العرقية كمثال آخر تأثير على فرص تنمية الطفل، ولذلك يُعتقد أن التفاوتات العرقية مسؤولة عن التجارب المختلفة التي يتعرض لها الطفل في السنوات الأولى، فقد يبقى الطفل ذو الهوية العرقية الأضعف بحسب تصنيف المجتمع له معزولًا  عن موارد مجتمع الأغلبية القوية، فتتأثر نتائجه المعرفية، وخبراته، ونموه الصحي بشكلٍ عام.

وفي السياق نفسه تؤثر الحقائق السياسية على  الخطط التنموية للدولة، ثم تؤثر على الأسرة وأسلوب تنشئتها للطفل؛ فعلى سبيل المثال الطفل الذي يعيش في بلد مصنفة من دول العالم الأول سيشهد تطورًا مختلفًا داخل البيت، وفي وسط المجتمع عن الطفل الذي يعيش في بلد أقل تنمية وتقدمًا.

النظام الزمني (Chronosystem)

يعرف هذا النظام باسم النظام الزمني؛ نظرًا لارتباطه بالتحولات، والمتغيرات من مرحلة الطفولة إلى الشيخوخة.  أيّ التحولات التي تحدث خلال فترة حياة الشخص، وتؤثر فيه، كالأحداث الكبرى، مثل: خوض الحروب، أو فقدان أحد الأبوين، أو حدوث أزمة اقتصادية، أو انتشار الأوبئة.

“فالأطفال الذين عانوا من قلة ثروة، أو نوعٍ من الحرمان خلال فترة الكساد العظيم العالمي – في ثلاثينات القرن العشرين- هم دون غيرهم؛ أصبحوا بالغين يتمتعون بإحساس واثق من الأهداف المهنية أكثر من غير المحرومين. وقد يكون البعض قد عمل على دعم أسرته ماليًّ، وغرس ذلك في نفوسهم مستويات مختلفة من الرضا مع الكبار. (دراسة إلدر الكلاسيكية أطفال الكساد العظيم ، 1974).”

و من وقتنا الحاضر أدى وباء كوفيد19 إلى تخلف الأطفال في كل بلد تقريبًا عن تعلمهم  لمهارات القراءة، والكتابة، والحساب، وباقي المهارات الاجتماعية التي يحتاجها الأطفال في عمر مبكر. وتفاقمت أزمة التعليم خاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض. وأظهرت البيانات أيضًا أن توقف الخروج إلى المدرسة من المحتمل أن يعني وقف تعلم الفتيات ، اللائي سيصبحن أكثر انخراطًا في المسؤوليات المنزلية؛ مما يعرضهن لخطر الفشل الأكاديمي، وتعزيز المعتقدات المجتمعية بأن تعليم الأولاد أكثر أهمية من الفتيات.

 وإلى اليوم ما زلنا نعاني آثار تلك الأزمة؛ إذ إن للزيادة المحتملة لفقر التعلم تأثير مدمر على الوعي العام والإنتاجية في المستقبل؛ وهذا ما نقصده في تأثير النظام الزمني على الطفل.

الخاتمة :

نحن نعلم أن  الأبوين لا يستطيعان السيطرة على كل تلك الأنظمة؛ لكن ما نسعى لتبصير الأبوين له، هو أن استثماراتهم في العلاقات المباشرة، والبيئة الإيجابية، ستسمح للطفل بالتطور، والنجاح إلى أقصى إمكاناته الممكنة، وأن التجارب الأخرى التي يمكن توفيرها له في السنوات الأولى مهمة بشكل خاص للتطور المعرفي، والنمو الصحي له؛ لأن المهارات، والخبرات المكتسبة والمؤثرة في هذه المرحلة لا تستمر فقط في فترات لاحقة من حياة الطفل، بل تؤثر أيضًا على قوة إنتاجية التعلم اللاحق.