هل تأملنا في شكل الرسائل التي نورِثها أطفالنا عن مفهوم النجاح؟

كتبته: غيداء جمعان

يعلن ختام العام الدراسي عن نتائج السعي الحثيث خلال العام، ويصل الأبناء مع الآباء إلى لحظة حاسمة يبنى عليها الوالدان الكثير من الأحلام والكثير من العقوبات أيضًا. يرزخ أبناؤنا تحت ثقل لحظة إعلان النتائج وتفنيدها إلى ناجح أو غير ذلك، كمرحلة مفصلية تحدد حتى المصير العِلمي المهني لسنوات قادمة. هذا هو الواقع الاجتماعي اليوم الذي حدد النجاح أو الفشل تحت مفاهيم تقاس وتشهد عليها الدرجات، وعلى أساسه نعرّف النجاح ونبنيه وننقله لأطفالنا .فهل تأملنا في شكل الرسائل التي نورِثها أطفالنا عن مفهوم النجاح؟ ربما يكون في إعادة النظر في تعريفه وتشكيله على الواقع فرصة لتحقيقه تحت صورة أوسع من تلك التي ننظر إليها وحدها ونفترض أنها الصورة الوحيدة للنجاح.

صياغة النجاح:

يقاس النجاح اليوم بالمخرجات التي تطرحها وتقبلها منظومة التعليم وحدها، فنعتبر الطفل ناجحًا إذا حصل على أعلى الدرجات وحاز على الأوسمة في الفعاليات التي تشركه المدرسة فيها كممثل لها أو عند انضمامه لإحدى جامعات النخبة. وغالبًا ما يفضي أو يعزز من محبة المعلمين له والفوز بقبول الأقران من حوله. وبالطبع نحن نسعى أن يكتسب الطفل القدرة على الاندماج والتوافق مع الآخرين وأن يحظى بالمحبة والتقدير من الجميع وتحديدًا الأقران، ويحقق مستوى دراسيًا ممتازًا. ويبقى الإشكال في تقييد مفهوم النجاح وتحديده بصورة واحدة.

الواقع الاجتماعي ومفهوم النجاح:

خلق الواقع الاجتماعي هذا المفهوم وحده عن النجاح. والواقع الاجتماعي ببساطة هو ما ينتُج عن ابتكار شيء ثم  إعطاءه اسمًا. سيكون لدينا مفهوم جديد علينا نقله للآخرين وطالما اتفقوا معنا يعنني أننا خلقنا شيئًا واقعيًا.

فإذا اتفقنا أن الدراسة ستكون اثنى عشرة سنة في التعليم العام ثم أربعة بحد أدنى في التعليم الجامعي سيكون هذا واقعًا اجتماعيًّا أوجدناه. والاجتماع للاحتفال مثلًا بالتخرج وُجد كدلالة على انتهاء مرحلة ما وأننا نحن نقيم حفلًا الآن. حيث يكون لنا القرار إلى حد كبير في خلق نوع الأِشياء التي تحيط بنا والتواجد في وسطها.

يبدو الأمر وكأنه شيء خارق وهو بالفعل من إبداع خلق الله لنا ولعقولنا ، حيث أن مجموعة من البشر يمكنهم أن يخلقوا الواقع الاجتماعي باتفاق مجموعة من العقول أٌقلها اثنان.

ويصبح مفهوم النجاح واقعًا بالنسبة لنا من خلال قدرات البشر التي تعدّ شرطًا مسبقًا وأساسيًّا لبناء الواقع الاجتماعي وهي كالتالي:

  • موافقة مجموعة من البشر على ماهية المفهوم وشكله. حينها تدعى هذه المعرفة المشتركة والاتفاق عليها ( الإرادة أو النية الجمعية  collective intentionality)
  •  إعلان النية الجمعية من خلال اللغة، نحن البشر نتميز بأن إعلان النية الجمعية يتضمن مفاهيم ذهنية، فيمكن أن نرى أن تحصيل الدرجات وجمع الأوسمة هي مقياس (النجاح)، مما يعني أننا اخترنا وصنفناها أدوات لقياس النجاح. ومن ثم فتغيير رأينا أو تعديل تلك الأدوات وإعادة تصنيفها تحت مفهوم آخر يُخلق لنا واقعًا آخر. ونمتلك هذه القدرة العظيمة لأننا نمتلك اللغة كشرط ثانٍ لتحقيق الواقع الاجتماعي.

فإذا اتفق الناس على أن مجموعة من العلامات التي تدلل على النجاح الأكاديمي والحصول على قبول جامعات مرموقة ضمن سياق محدد تعني النجاح، فهو كذلك وأًصبح واقعًا. وبهذا ليس بالضرورة أن تكون واعيًا لهذا الاتفاق أو موافقًا على أن حالة أحد الأطفال تصف مفهوم النجاح أو لا. عليك الموافقة على أن مفهوم النجاح مرتبط بوجود مؤشرات يمكن ملاحظتها فقط بحسب ما أوجدنا من واقع اجتماعي يدلل على النجاح.

المفهوم المحدود عن النجاح والكبت الناتج عنه:

تشكّل سيادة مفهوم النجاح كما سبق ذكره ثقافة واضحة تصرّح بفشل من يخالف هذا التعريف وتقرّبه من الاعتراف به تحت محددات الفشل. وحتى قبل تضييق الأحكام بين الأفراد في تقسيمهم بصرامة بين النجاح والفشل، يضع هذا التعريف الطفل من عمر صغير تحت ضغط التعلم بطريقة واحدة محددة مفروضة عليه حتى يتم تقييمه لاحقًا بمقاييس واختبارات واحدة مصممة لقياس نتائج التعليم  وإعلان النجاح أو الفشل، دون اعتبار للفروق الفردية وبلا اهتمام برحلة التعلم والتعليم ذاتها التي تبعًا لمقاييس الاجتياز تضيع كثيرًا مما ينبغي تعلمه من مهارات ومفاهيم قد لا يعيرها التعليم اهتمامًا لأنه لا يمكن قياسها واحتسابها لتحقيق النجاح.

فقد وصلنا للمبالغة بتقدير النجاح بهذه المعايير حتى غفلنا عن المهارات التي تبني عقلًا مفتحًا مرنًا كالتنظيم العاطفي وتشجيع الإقدام على التجارب الجديدة وتغذية حب الاستطلاع والاستكشاف وتنمية الاستبصار بالذات والتعاطف والإبداع ومهارات التفكير الناقد. وهذه كلها أمثلة على سمات غالبًا ما يصعب قياسها أو تحديدها بما يمكن قراءته بالأرقام، ولم نحدد لها حتى مقاييسًا في المنظومة التعليمية>

يخلقُ هذا التركيز على الوجهة واجتياز اختبارات القياس عقلية غير منفتحة على التجريب وتبني وجهات نظر مختلفة. وبالنظر عن قرب لهذا فهي مشكلة مؤدية للفشل، ذلك أن الثقافة السائدة حذّرت من الابتكار والمجازفة وضيقت حد المرغوب والمقبول لنيل النجاح. وتصير النتيجة الحتمية اغتراب الطفل عن ذاته؛ فإذا منعنا المجازفة وحددنا حدود التجارب المتاحة له، نحرمه من فرصة اكتشاف ذاته والتعرف على ما يحبه ويشبهه. ليس هذا فقط بل بقلة التجارب واتباع تجارب مرسومة بدقة يتجنب الطفل الاحباطات التي من الضروري التعرض لها لتقويته والوصول للفهم الصحيح عن نفسه حين يُختبر في قيمه ومهاراته وعندما تُعرض عليه المسائل التي قد يرى فيها المعنى بالنسبة له وتحرّكه لكيفية السعي لها بطريقته هو.

بالتأكيد ليس هناك صوت ضد الحصول على التقدير الجيد والسعي للانضمام لأفضل الجامعات، والتحلي بالصفات الحسنة والمهارات الاجتماعية الجيدة التي تمكّن الطفل من اكتساب محبة الأقران والأصحاب. لكن بتوجيه من البوصلة الداخلية للطفل بدلًا من التأثير الخارجي، أي من منبع قيمه واهتماماته واحتياجاته، من الداخل أولًا وبما لا يحصر النجاح بشهادة الجميع وما يتحقق تحت أعينهم فيمكن قياسه وملاحظته، أو يجيز لتلك الإنجازات أن تحدد قيمة الفرد وحدها فيكون الطفل في موضع قلق وشك للحفاظ على تلك القيمة والصورة المرسومة مسبقًا عنه. فتدفعه إلى تفاعل سلبي مستمر مع من حوله، إذ يسترشد بهم للاهتداء والتأكد من صحة خطواته باستمرار دون التفاتٍ لما تمليه عليه نفسه أولًا.

وبينما تتدفّق في الصغر تلك المهارات أو الأشياء التي تثير فضول الطفل أكثر من المراحل التالية للنمو. حيث تتضاءل تدريجيا عند الكبر وتخفت وتتحدد. فعند التقصير في النظر إلى النفس وتركيز الانتباه على مبتغى المحيط الخارجي، قد يحقق الطفل لاحقًا في كِبره النجاح وفق المعايير المشهود لها من المجتمع، لكنه سيقف أمام ما سعى إليه وما إن كان يمثله حقًا والأصعب أنه قد يفتقر لتلك المهارات التي تساعده على الخروج من أزمة الشك هذه وتعيد توجيهه لنفسه حول ما يحبه ويمثّل معنى بالنسبة له. لأنه في ذات الوقت لم يتحصّل على الوقت الكافي منذ الصغر في تنمية وإثراء تلك المهارات بالتجارب المتنوعة والمركزة  التي تنطلق من نفسه وحاجاته وتعينه على التعرف عليها.

لا ضير في تحقيق النجاح بالالتحاق لوظيفة مرموقة أو تحت معيار آخر بالتأكيد مرة أخرى، لكننا نحرص على خلق التوازن وتحقيق سعادة نابعة من الداخل، تعكس حقيقة ذلك الإنسان بما يحتويه من أفكار وهوايات وقيم، فيبني اتساق بين ما يشعر به وبين ما يظهره ويعمل به دون أن يكون ذلك الجزء من النجاح الذي يمكن رؤيته وقياسه مساعدًا على أن يخلق كبتًا ويمس العافية النفسية، ودون أن يكون نتيجة تربية خانقة صارمة في فرض ما يجب تحقيقه دون اعتبار للمرونة و للحرية والاختيار.

الرسائل التي نحتاج إلى إيصالها لأطفالنا حول معنى النجاح:

أن نراعي ما يطلبه الطفل باهتمام وأن نلبي حاجته فيه، فقد يكون انشغالنا بإثراء وقته بما نراه واجب تعلمه يشغلنا عن النظر إلى داخله وتنمية ما يهوى أو يبرع فيه. حتى أن مراعاة هذا قد يوجهنا أو يعمق فهمنا حول إمكانية تحقيق النجاح دائمًا وبما يمكن صياغته انطلاقًا من الحاجات والاهتمامات التي يتعرف عليها الأطفال من الصغر عبر خوض التجارب. ويتحقق ذلك من خلال توفير تلك التجارب أو إيجادها بحسب ما يحتاج الطفل للنمو والتطور والتي تشجع على الإبداع ولا تطفيه أملًا بالتركيز على مفهوم محدد متفق عليه لما يعني النجاح. ودون أن يفرض عليه تحقيق ما لم نستطع تحقيقه في ماضينا. بل على العكس مساعدته على النظر إلى داخله وتقوية الاستبصار بالذات. فنشجع الجهد والمثابرة  أكثر من السعي المحموم لرصد الإنجازات المرئية أو الملموسة التي تقاس خارجيًا في وسط صراع وضغط نفسي بين اللحاق بالوقت ومضاعفة الجهد.

وهذا الانتباه والاتصال الجيد بالذات يخلق تواصلًا يتحقق فيه الانفتاح والاهتمام بتحقيق الاستقرار مع المحيطين من حولهم باتزان. أي دون إغفال الحاجات الداخلية على حساب ما يجب أن يظهر للآخرين.

وبالطبع سنكون متيقظين لتقييم ما على الطفل اكتسابه دعمًا لمصلحته حتى لو كان غير قادر على الإلمام بأهميته الآن، فالحزم مهم وداعم لنمو الطفل في وسط حياة متزنة تلبي رغباته ولا تفرط فيما قد لا يميل له كل الميل لكنه قيّم وضروري. ولعله عندما نلفت النظر للاهتمام بمهارات أكثر تنوعًا ومراعاة لاهتمامات يطلبها الطفل قد نجد أنفسنا حول المخاطرة بمستقبل الطفل عند انتقاء تجاربه أو تسييره في سير غير اعتيادي. لكن هذا لن يحدث عند مراعاة التوازن بين طلب الطفل واحيتاجاته ودعمه عند رغبته بمسار معين وبين ما يلزم أن يكون فيه ويسعى إليه بدعم ومساندة الوالدين كذلك. المهم هو ألا يهمل ذلك الوهج الداخلي وألا يسلط الضوء وحده على مؤشرات النجاح بتعريف الواقع الاجتماعي الذي قد يبدو محدودًا إن أخلصنا لكونه وحده هو ما يعني النجاح. ومن الجيد أننا سنجد الإضافة إليه أو توسيعه ليشمل اهتمامات ومهارات مختلفة بمثابة تحدٍ لتطور الدماغ وتعزيز الوصلات العصبية فيه، وسيمثل ذلك وكزة إيجابية نحو مزيد من الرضا والازدهار في الحياة.