كتبته: غيداء جمعان
عرَّفَ المراديُّ الحزم قائلًا: “هو النظر في الأمور قبل نزولها، وتجنُّب المهالك قبل الوقوع فيها، وتدبير الأمور على أحسن ما تكون من وجوهها”.
والحزم لغةً: حَزَم الأمر: ضبطه وأتقنه واستعدَّ له؛ واصطلاحًا: اتخاذ القرار بفعلٍ أو ترك.
كأبوين ومربين فإننا نمارس عديدًا من السلوكيات تحت مسمى الحزم في التربية، وفي الحقيقة فإن إعادة صياغة معنى الحزم مع الأطفال لا تختلف عما ذكرناه من تعريفاتٍ للحزم في اللغة والاصطلاح..
إلا أن تبيين مقصدنا خلفه هو جزء نحاول أن نتفق عنده، بأن الحزم وجد لدفع الطفل للازدهار في حياته ولدعم علاقته بنا في المقام الأول، لكننا أحيانًا نحيد عن الصورة الكبيرة الثابتة لهدفنا من الحزم.
إما لضابيبة تحديد التصرف الأنسب، أو لأننا في كثير من الأحيان نخشى تأثير الطفل علينا تأثيرًا مباشرًا في سلوكنا معه، أو تأثيره في الاستجابة اللاحقة لموقفنا عند الحزم. والإشكال هنا أنها سيناريوهات للحوادث التي نتخيلها في المستقبل، وهذا ما لا يخدم الموقف بصورته الحاضرة.
حيث يشتتنا عن الهدف، فلا يصبح بعدها هذا الاعتبار بالأحداث المستقبلية يهتم بأن مصلحة الطفل هي الأولوية الأولى. أو حتى أننا في كثير من المرات نخشى مواجهة الضغط الاجتماعي ممن حولنا عند ترجيح الكفة لصالح الطفل؛ لأنهم يفسرون ذلك خضوعًا له أو خسارة أمامه.
أتفهم كيف تبدو كل تلك السيناريوهات مربكة، لكن ارتباطنا بالطفل يسمو على كل فكرة تضيّق تعاملنا مع الطفل إلى حد تشبيهها بلعبة نخشى الخسارة فيها وفوز الطفل علينا؛ لذلك تحديد النقطة المرجعية التي تذكرنا بالانتباه لبناء علاقة متينة مع الطفل هو ما قد يعيدنا إلى الصواب.
كيف يكون الحزم مع الطفل؟
الحزم يكون بنبرة صوت واثقة تنطق بجمل قصيرة وبسيطة لتصف فعلًا يندرج تحت خطوط عريضة قليلة واضحة للطفل.
خصوصًا لدى طفل السنوات الأولى، ذلك الطفل يسعى لاكتشاف كل شيء من حوله، ونحن بدورنا نحاول أن نكون صارمين معه ظنًا بأن ذلك ما يعينه على استيعاب الحدود التي نأمل ألا يحيد عنها فيرهقنا في إعادة ضبطه لاحقًا.
وهذا ما لا يعنيه الحزم لأن تلك القيود قاسية لطفل يحاول اكتساب وبناء المهارات التي تساعده على إدراك أبعاد سلوكياته أولًا قبل أن يعي لماذا أبواه يرفضان فعله هذا؟
ذلك لأن الأطفال في السنوات الثلاث الأولى يهمن عليهم نصف الكرة الأيمن من أدمغتهم؛ مما يدفعهم للتصرف بعاطفة جياشة ولا يستوعبون التفسيرات المنطقية التي نحثهم عليها. لذلك فإن تطبيق الحزم بصورة لا تعبّر عمّا يمثله معنى الحزم بدّقة، ودون استيعاب أسلوب عمل أدمغتهم يزيد من حرج الموقف ولا يعينهم على التخطي.
ما الذي يجعلنا نأخذ موقف الحزم بحدية أعلى؟
لا يمكننا تحديد سبب واحد، لكن ربما أن الصورة التي فهمنا نحن باستخدامها شكل الحزم كانت تعبر عنه بنبرة صوت مرتفعة وملامح غضب وجو مشحون، وأمر لا يقبل إلا التنفيذ أو الإقصاء بعيدًا.
وربما أننا ساهمنا تدريجيًا في تشكيله بهذه الصورة لدينا عندما لم نؤسس الطفل على مبدأ الحوار والتفاوض، فأصبح كل موقف عابر معه هو محطة للجدل وفرض لقوة السيطرة لإعادة ضبط الموقف.
وفي خضم هذا أجد أنه في أحيان كثيرة يتولد لدينا شعور الاستفزاز لتلك المواقف التي نشعر فيها بالإحباط لعدم استجابة الطفل لما نسميه حزمًا. هذا الشعور قد يكون نتيجة لخلق حال من التوتر تثير فينا تساؤلاتنا حول جدارتنا في التعامل مع الطفل.
ولكن ما يجب إدراكه والعمل به هو أن الطفل لم يكن ولن يكون حالة استفزازية.
وأثناء تمخض ذلك الشعور فينا نظن أن الثبات على موقفنا هو الأنسب لضبط سلوك الطفل. وهذا ما يضعنا في موقف الند بالند في معاملتنا للطفل أو استغلال قدرتنا على فرض سلطتنا عليه.
هل نتنازل عن موقف الحزم لتفادي أو إطفاء غضب الطفل؟
لا ونعم في الوقت ذاته، وهنا الموقف هو ما يحدد تقديم التنازل أو الثبات على الموقف، شعور الطفل وحاجاته وسياق الموقف المختلف عليه هو ما يتحكم بردة الفعل، غير أنه في كل الأحوال لا يتنافى الرفض والتنازل للطفل بمناقشته حول الموضوع.
هذه المواقف هي ضمن أهم ما يحتاج إليه الطفل حتى يتعلم الحوار وكيفية فك النزاع التي بها يطوّر مهارة حل المشكلات والتنظيم الذاتي. ومن ثم التعامل مع الإحباط وتنمية المرونة النفسية.
ولا يتطلب الحزم زجر الطفل والنظر له بازدراء والصراخ، إذ لم يعد هذا حزمًا أصلًا، والموقف كاملًا خرج لما قد يكون أشد ضررًا على الطفل مما رغبنا الحزم عنده، فهذه النظرة وتلك الصرخة لا يدركها الطفل إلا كنوع من الإقصاء لشخصه والتقليل من احترامه.
وهذا يوتر علاقته بذاته أيضًا ويفقده ثقته بنفسه. وإلى أبعد من ذلك فإن تعريض الطفل لهذا التفاعل السلبي المسمى حزمًا؛ يعيقه عن تشكيل الفهم الصحيح لمعنى وشكل الحزم؛ مما قد يعيق قدرته على الحزم مع ذاته وشؤون حياته وحدود علاقاته مستقبلًا.
ما الذي يمكن فعله لتحديد أو ضبط مواقف الحزم قدر الإمكان؟
قبل أن تكون هناك ردة فعل حازمة نتيجة فعل صادر عن الطفل أو لحماية الطفل، فالواجب فهم حاجات الطفل أولًا وعرض البدائل وتقبل مشاعر الرفض، مع مجاهدة النفس لإدارة الغضب والإحباط قبل الشروع بتوجيه الطفل، وهذه من أهم ما يجب التركيز عليه.
وفي كل الأحوال فمن الجيد الاتفاق على الخطوط الموجبة للحزم بين الأبوين وبين المدرسة؛ فعدم الاتساق يخلق سلوكيات عنيدة ومتعبة الترويض لدى الطفل؛ لأنها تضعه في صراع بين الموجهين وفي اختبارٍ مستمر لتجاوز الحدود حيث يعلم أن هناك طرفًا متراخيًا معه وسوف يستسلم له في نهاية الأمر.
وثق أن الأطفال جميعًا سيتبعون القرارات الناتجة عن أشخاص يشعرون معهم بالود والرحمة حتى عند الحزم؛ لأن ذلك يشعرهم بالثقة ومحبتهم له. فالعلاقة الصحية بين الطفل والموجه هنا مبينة على الثقة، لا على الند بالند والسلطة وتراتبية الضعيف والقوي.