نحن نحتاج للنزاع لتقوية علاقتنا مع أطفالنا

كتبته: غيداء جمعان

في الشعور بالرغبة عن كشف المكتوب وراء هذا العنوان كمربين أو متخصصين في الطفولة يعني أننا نشترك في تسجيل مواقف مشابهه لذلك اليوم الذي وجدت فيه طفلة تبلغ من العمر 4 سنوات تصر على موقفها بالاستمرار في اللعب في الرمل في حين بدء موعد القصة حسب الجدول اليومي. نشعر أننا أمام موقف يستدعي التدخل السريع حتى لا يزداد تعقيدًا بمرور الوقت. وما يعيد الموقف لحجمه الطبيعي هو استعيابنا لأن ما يحدث بيننا الآن هو التصدع أو التمزق في علاقتنا بالطفل وأن هذا بالفعل من أهم ما نحتاجه إليه في علاقتنا بالطفل – وقد يبدو من غير المألوف الاعتراف بذلك – لكننا نحتاج لمواقف التمزق فيما بيننا كتمرين يشد ويقوي شكل علاقتنا ببضعنا.  

التمزق في نسيج العلاقات:

في تعريف التمزق باختصار هو كسر في العلاقة الإيجابية بين طرفين، يشعر فيها أحدهما بأن احتياجاته غير ملباة وأن الاتصال فيما بينهما قد قطع. يحدث التمزق بسبب سوء تفسير الرسائل التي يرسلها الطفل للأبوان أو العكس. أو حين حدوث الاختلافات بين الأبوان والطفل عند مسألة الرغبة في الاتصال أو العزلة، أو عند تشكيل الحدود من الأبوان للطفل لاكسابه السلوكيات المناسبة. والمألوف أنه يسعى المربين إلى التخلُّص من جميع مواقف التمزق في العلاقة مع الطفل؛ بيد أنَّهم أيضًا يحاولون انتزاع طبيعة من طبيعة العلاقات ويختزلون الموقف المسبب للتمزق في افتراضات متشائمة لما قد سيحدث في الحاضر خلال وقت قصير كزيادة تعقيد الموقف أو خروجه عن السيطرة أو تكالب المهام اليومية عند عرقلة سير واحد منها. عندما يجرون حسابتهم. تصبح هذه الافتراضات تحيُّزاتٍ لأنها تحرّف في تطوُّر هذه الفرضيات وتغيّر في تفسير هذه التمزقات في اتجاهاتٍ معينة بعيدة عن استدراك أن العلاقات بحاجة لمثل هذه التمزقات تحت شروط معينة تتضمن الاقتران السريع بحالة الالتئام.

إذا اعتقدت أن التمزق ممكن، فآمن بأن الالتئام ممكن:

نقول عن الالتئام بأنه عكس التمزق فهو محاولة إعادة الاتصال والانسجام في تجربة تفاعلية تضم الطرفين. وفي علاقة بين الأبوان والطفل بالتأكيد ستأخذ محاولات الالتئام أشكالًا تنسجم مع طريقة استجابات الفئة العمرية ، فالأطفال الصغار يستجيبون لمحاولات الالتئام من خلال إعادة تمثيل القصة بالدمى أو الرسم ، والاحتضان والاعتذار الصادق والأطفال الأكبر سنًا القادرين على التعبير اللفظي قد يستجيبون كذلك بالمناقشة وطلب إعادة الحوار للوصول إلى حل يرضي الطرفان.

وسيكون الأبوان أو أحدهما هنا هو مركز عملية الالتئام لأنه من الصعب على الطفل أن يبادر بطلب إعادة الاتصال لتحقيق الالتئام مع أباه الذي انقطع التواصل معه بنهاية مخيفة أو حادة، وقد يحتاج الأفراد إلى فترة راحة لتفكيك الحدث والتعامل مع مشاعرهم بشأنها، فالاتزان الانفعالي ووعي الأب هنا مهمان للشروع في بدء عملية الالتئام والإصلاح البيني الضروري للطفل.

مع احتفاظ الأب بكامل حقه في التصريح بحدوث الخطأ ثم العمل لاحقًا على عملية الالتئام والانسجام مع الطفل، وليس من دواعي السعي للالتئام الاستسلام لرغبات الطفل والتطلّع لأن تكون علاقاتنا متناغمة طوال الوقت.

الهدف من أفعال الالتئام هو محاولة إعادة الاتصال بالطفل من خلال إعادة مواءمة نفسنا مع حالته العاطفية. وفي هذا مساحة واسعة لتحقيقه من خلال التعبير الواضح عن رغبة الطفل وتقبل شعوره دون الحاجة لتلبية رغبته فعليًا ” أعلم أنك تريدين اللعب في الرمل لكن سيحين وقت قراءة القصة بعد خمس دقائق، في نهاية اليوم سنجد فرصة للعودة واللعب بالرمل مره أخرى، أو بالتأكيد هذا ما سنفعله غدًا في نفس التوقيت”

تبقى هذه المواقف من التمزق مربكة للطفل ومن الصحي أن يشعر أنه لا بأس أن تخالجه مشاعر غير مريحه تجبره على الانهيار أحيانًا وأكثر ما يبحث عنه ويكون بحاجة ماسة له هو التفهم، من ذلك نحن نحاول أن نكون مستشعرين لاحتياجاته العاطفية وحالاته المزاجية، ومراعين ومحترمين لاستعداد الطفل لقبول مبادرتنا بإعادة التواصل معه في وقت مناسب والأهم ألا نستسلم إذا شعرنا بالرفض لأفعال الالتئام التي قدمناها ونعيد المحاولة في وقت لاحق بطرق داعمة ومُراعية وهذا ما يوجه إدراك الطفل نحو وجود حرية للاتصال والانفصال يستنتج منها على المدى البعيد أنه تم احترام حدوده واحتياجاته؛ إذن يمكن الوثوق في الآخرين والتفاعل معهم بإيجابية.

اتبع التمزق بالالتئام فورًا:

لا شك أن تعرض الطفل لهذه التجارب المربكة المتمثلة بالتمزق ضرورية للطفل إذا تبعتها ممارسات الالتئام، وأن ما يتعلمه من الصغر من علاقته بأبواه هو ما يحدد شكل التفاعل بين علاقاته مع الآخرين مستقبلًا . فبهذه العملية كاملة المتمثلة بالتمزق المتبوع بالالتئام يكتسب الطفل المرونة والفهم الحقيقي لما تكون عليه العلاقات الحقيقية، فعندما يسجل الطفل عددًا من تجارب إعادة الاتصال والالتئام يبني الطفل أمانًا داخليًا يمكنه من التواصل بفاعلية مع الآخرين ومن خلاله يشعر الطفل بالتجاوب فيدرك الأثر الإيجابي لوجود الآخر في حياته ، واحتواء الآخر له. وأنه بالرغم من أن الخلاف قائم ومعقدًا فإن التواصل مجددًا مسموح ويمكن تحقيقه بل وهذا ما يجدد الشعور بالألفة والتقارب. فتوسّع هذه التجارب من مساحة انفتاحه على الآخرين والتجارب في حياته المدعومة بثقة عالية في نفسه.

فالطفل بفطرته يبحث عن التفاعل وعقله موجهه لتفكيك شفرات الإرسال والاستقبال اللفظية وغير اللفظية. وعند حدوث التمزق مع شخص مهم في حياته يفقد هذا الاتصال ويواجه مشاعر ثقيلة تحتاج لأن تُتبع بمواقف الالتئام فورًا حتى يستعيد توازنه، وإن لم يحدث ذلك وحصل الطفل على عدد أكبر من خبرات التمزق المفتوحة دون الالتئام وانقطاع التواصل في  وقت الحاجة الماسة للتواصل والتقارب يختل مفهوم الطفل عن ذاته ويقاسي الإحساس بالخزي و شعور الرفض والوحدة وما تحدثه هذه المشاعر من تغييرات فسيولوجية تضر بعقل الطفل النامي . وتراكم مثل هذه الخبرات في حياة الطفل تدفع عقله لتكوين آليات دفاع بمعنى تشكيل رد فعل عقلي تلقائي يحاول إبقاء الطفل في حالة توازن عن طريق إعاقة وعيه عند مواجهته لموقف ينشط ذكرى الخزي مثلًا فتقوده لتجنب الآخرين كاستجابة لتعقيد مشاعره وأفكاره فتبدو العزلة هنا وكأنها درع وقائي من الشدائد.

وبالنسبة لهؤلاء الأطفال الذين لم يطوروا المهارات اللازمة للحفاظ على التوازن العاطفي يواجهون صعوبة في معالجة المواقف السلبية في علاقاتهم المستقبلية مقارنة بأولئك المقبلين على مواجهة تجاربهم السلبية وهم مدركون كيفية إعادتها مرة أخرى للمسار الصحيح.

عوائق تحول دون المسارعة للاستجابات الالتئام:

يحتاج الآباء أن يكونوا على وعي بانفعالاتهم واستجابتهم لفهم كيفية مساهمتهم في حدوث التمزق أو تصاعده لدرجة تخيّل لهم صعوبة إعادة التواصل أو إلحاق التمزق باستجابات الالتئام. فربما تكون قضايانا العالقة منذ الطفولة والتي لم تحظى بفرصة حلها واحتواءها عائقًا أمام تشكيل علاقة تواصل صحية مع أطفالنا، فإذا كنا قد مررنا بتجارب مماثلة لتمزق سام لم يحتضن باستجابات الالتئام فإننا قد نعيد التجربة ذاتها مع أطفالنا بطرق مختلفة.

وقد تنشط لدينا آليات الدفاع التي تبنتها عقولنا تجاه المواقف العاطفية ونكره ضعفنا واحتياجنا العاطفي للتواصل ومن هنا قد نفرّغ تلك الكراهية في صورة حنق وغضب على سلوكيات أطفالنا دون أن نعطي فرصة لتفهم مشاعرهم وتفسير انفعالاتهم. ومرة أخرى سيكون تكرار الشعور بالقلق حيال فشلنا كأبوان تجاه عدم قدرتنا على صرف استجابة مناسبة تبيّن سيطرتنا على موقف التمزق مع أطفالنا وقلقنا حينها من حكم الآخرين على فشلنا كمربين محفزًا لصرف ردود فعل حادة وتفعيل سلسلة من الدفاعات النفسية ضد هذه المشاعر المربكة.

فرصة الإصلاح والالتئام:

الحقيقة التي نحاول عكسها على واقعنا هو أن عملية التصحيح دائمًا ممكنة سواءً كانت على مستوى علاقتنا بالطفل أو علاقتنا بتلك المشكلات المفتوحة في ماضينا وتؤثر على علاقتنا بأنفسنا واستجابتنا لأطفالنا، والمعين هنا هو القدرة على الفصل بين تجربتنا الخاصة وتجربة الطفل، فالإصلاح أو الالتئام  الصادق لا يزال بإمكاننا التغيير لتحقيقه بل إن كثيرًا ما يكون الاعتراف بالخطأ وتصحيح الخطوات والسعي لاكتشاف الطرق الصحيحة لإعادة التواصل ورؤية هذه التحديات كفرص للتعلّم والنمو مثمر أكثر من محاولة التصرف بمثالية وربما هذا ما يعكس صورة مكبرة من صور عملية التمزق والالتئام وأثرهما الإيجابي إذا تبعا بعضهما.