كتبته: غيداء جمعان
الفن بأيّ شكل يعد تعبيرًا أو تصويرًا واقعيًا للخيال أو تطبيقًا لمعنى الإبداع البشري، ورغم التطور الحاصل في هذا الميدان إلا أن الاهتمام به لايزال ضعيفًا من قبل المسؤولين عن تعليم الأطفال، وذلك لأنهم ينتبهون أكثر لتلك المواد والمهارات التي لها معايير واضحة تقاس بها مثل الكتابة وإتقان العمليات الحسابية البسيطة، ولا يدركون حجم أثر الفنون بالرغم من أنه من أهم المجالات التي قد تثري معرفة الأطفال وتكسبهم قيمًا عميقة وحقيقية.
من الممكن أن تكون قصة المنتج الفني النهائي هي الغاية من الفن، أو أن الغاية من تعليمه هو الرحلة نفسها التي أدخلت الطفل في سلسلة من عمليات التفكير والإبداع والعديد من المهارات التي أوصلته للنتيجة النهائية، وفي كلا الحالتين يبقى للفنون أثر طويل الأمد على نفسية وعقلية الطفل، ومن تلك الآثار الإيجابية ما يلي:
1. دعم صحة الدماغ
ممارسة الفنون تحقق عزلًا صحيًا للعقل عن بقية الأنشطة اليومية فتساهم في خفض مستويات التوتر وتحقق غاية الاستمتاع الذي يعطي شعورًا بالرضا والحيوية وينعكس على الصحة العقلية بشكل إيجابي.
ولأن التجارب الفنية ككل التجارب المثرية فيها تحديات وعقبات فهي مثيرة لدماغ الطفل، حيث تحفّز أجزاء الدماغ المسؤولة عن التفكير والإدراك والتعلم والتركيز والذاكرة وحل المشكلات. وحتى مع وجود تلك التحديات يبقى الفن مجالًا واسعًا لا يوجد به توجه أو تصرّف خاطئ مما يدفع الطفل ليكون أكثر جرأة في التفكير لتنفيذ ما يرغب به، وهذا النوع من التفكير يحفّز عقله ويهيئه للوظائف المعقدة.
2. تنمية مهارة التنظيم الذاتي
التنظيم الذاتي هو القدرة على إدارة العواطف ومعالجة السلوك وفق ما يتطلبه الموقف. والفنون تنمّي هذه المهارة من خلال تلك الممارسات التي يتطلبها العمل الفني. على سبيل المثال: انتظار تجفيف الألوان، أو الاضطرار للتعامل مع شعور الإحباط عند تكرار المحاولات، أو حتى الالتزام بالتعليمات المتعبة لتنفيذ العمل الكليّ. كل هذه المواقف تدرّب الطفل على مهارة التنظيم الذاتي.
3. تنمية اللغة التعبيرية ومهارات الاتصال
ترسم الفنون بجميع أشكالها دائرة وصل بين الطفل والمجتمع وتساعده على نمو مهارات التواصل لديه؛ ولأن التعليم الأكاديمي لا يكفي لإنتاج شخص متزن قادر على مواجهة العالم، فالمهارات ومهارات الاتصال تحديدًا مهمة للطفل لأنها هي المسؤولة عن استقبال أو إرسال مختلف أنواع المعلومات مثل إيصال الأفكار والمشاعر للآخرين، وتنمية هذه المهارة يساعد في نمو اللغة التعبيرية عند الطفل أيضًا، فنجده قادرًا على وصف الأحداث والتعبير عن أفكاره بجمل صحيحة. إن الفنون بطبيعتها قد تحقق هدف تنمية هذه المهارات من خلال تلك المحطات التي يمر بها الطفل في مرحلة إنتاج العمل الفني وحتى الانتهاء منه، فهو يحاول النقاش حول تطوير النشاط، أو يعدد أسباب اختياره لتلك الخامات في العمل، أو يصف عمله لمجموعة من الناس ويرد على أفكارهم حوله، وهذه التحديات في التواصل من المهم أن ندرّب الطفل عليها، وبيئة الفنون خصبة مناسبة لمواجهتها داخلها.
4. بناء الحس الفني والإبداعي
ممارسة الأطفال للفنون تساعدهم على نمو الحس الفني الذي يمدهم بشعور الدهشة وإدراك المميز حتى في وسط الأشياء العادية ويجعلهم أقرب للجمع بين حضور الشعور والإحساس الحقيقي مع تفكرهم وتعقلهم لموضوع الفن، وهذه الحالة وتعميمها في مواقف خارج الفن تساعدهم على أن يكونوا أكثر اتزانًا وحصافة في التعامل مع الأمور. داخل إطار الفنون تحديدًا يعمل الحس الفني على تكوين نظرتهم الخاصة للفنون وما قد يجذبهم إليها. ويمكّنهم من رؤية ووصف الأشياء بأسلوب فريد، وفي ذات الوقت الاهتمام بهذه المهارة يدعم الإبداع وينميه، وما إن يكون الطفل مبدعًا سيكون قادرًا على التفكير بمرونة لتجاوز التحديات، وسيصبح متمكنًا من توليد أو تطبيق أفكار ووجهات نظر مبتكرة.
5. التدريب على مهارات التفكير النقدي
إذا ما لخصنا تعريف التفكير النقدي فسنقول هو القدرة على تحليل وتقييم قضية ما من أجل تشكيل حكم. وإذا نظرنا للعمل الفني أيًا كان فإننا سنجده معقدًا ويتألف من عدة عوامل ومعان، لذلك كان تفحص الفنون وفهمها عملية تستغرق وقتًا للملاحظة والبحث والاستنتاج ثم إصدار حكم أو رأيّ عنه. وحتى النقاش بين الأطفال عن العمل والسماح للاختلاف فيما بينهم بتوجيه من المرّبي يعلمهم كيف يتم طرح الأفكار والآراء، وهذا كله يعزز المهارات التي تبني عملية التفكير النقدي.
6. التشجيع على التخيّل
قال ألبرت أينشتاين “الخيال أهم من المعرفة.” “المنطق سوف ينقلك من الألف إلى الياء؛ الخيال سيوصلك إلى كل مكان “.
الخيال يدعم معرفة الأطفال ويعمّق فهمهم للتجارب السابقة، فعندما يتخيل الطفل تَجرِبة الطيران خلال عرض مسرحي أو من خلال رسمة يرسمها فهو يحاول إدراك التجربة أو يحاول أن يتوسع فيها، وباستخدام مخيلته يحاول أن يخوض تجارب متنوعة تمكّنه الفنون من تجسيدها أمامه بصورة محسوسة أو قد تساعده على تخيّل أشياء جديدة كليًا أثناء عملية إنتاج العمل الفني.
7. تنمية القدرة على التعاطف والإحساس بالآخر
الفنون بشكل عام من صور التعبير عن الذات لذلك فهي تنمّي الذكاء العاطفي. وإذا استعرضنا المسارح كأحد أهم الفنون الأدائية سنجد خلفها الكثير من الفوائد الملموسة على روح الطفل وعقله لكن من زاوية الإحساس بالآخرين، فهي توفّر له فرصة لعيش دور الآخر واكتشاف مشاعر لم يختبرها من قبل بأكبر عدد من التفاصيل المطابقة للدور في الحقيقة. ففرصة تمثيل دور الفقير في المسرحية تسمح للطفل في الانغماس بالدور حتى يصبح متفهمًا لمشاعر ذلك الفقير والتحديات التي تواجهه يوميًا، مما يجعله متعاطفًا معه وملمًا بالمؤثرات المتحكمة في تلك الشخصية وهذا ما يثريه معرفيًا ويبني جزءً هامًا من قيمه بشكل رصين وثابت.
8. الفنون كمدخل للفلسفة
الأسئلة التي تطرح أثناء العمل، والنتيجة النهائية التي تحققت بعد عمليات التغيير والتعديل بحيث تناسب اختياراته الفنية، والتفسيرات المطولة التي لحقت بكل خطوة هي جزء أصيل من تعلم الفلسفة بطريقة بسيطة وقريبة للطفل. كما أن تفسير الفن قائم على الفلسفة لذلك وجودهما مع بعضهما يحقق تأثيرًا عميقًا لتلك المعاني والمفاهيم التي يختبرها الطفل أو يفترضها ليكتشف عواقبها من خلال تمثيلها بالفن والفلسفة كمفسّر له.
9. اكتساب مهارة أو اكتشاف هواية
نحن نسعى دائمًا للبحث عن كل الطرق التي تؤدي لاكتشاف وتنمية هوايتنا وهوايات أطفالنا، تعد ممارسة الفنون المختلفة معبرًا للتعرف على العديد من الهوايات مثل: هواية صنع الحرف اليدوية، أو الرسم والنحت، تلك الهوايات تسمح للأطفال بالاستفادة من مواهبهم وتعرّفهم على قدراتهم وذاتهم وتبني ثقتهم في أنفسهم، والهوايات بذاتها يمكن أن تكون أداة لتعلم العديد من المهارات الأخرى التي تبقى معهم لمستقبلهم وتساعدهم على مواجهة المواقف اليومية مثل مهارة: اتخاذ القرارات وحل المشكلات وغيرها.
10. فرصة للتعرّف على النفس
يستقبل الطفل خلال يومه العديد من المفاهيم عن نفسه وعن العالم من حوله، ممارسة أي نوع من الفنون يعطيه فرصة للتعبير عن كل ما سبق. مما يجعل ذلك مدخلًا جيدًا لفهم نفسه ومشاعره وهذا سينعكس على ثقته بنفسه بشكل واضح. وفرصة تعبير الطفل عن نفسه تساعد أيضًا في تكوين فكرة واضحة لدى الأهل عمّا يمر به الطفل وما يشغله، الأمر الذي سيكون مفيدًا لتوفير فرص تطويرية لمهارات الطفل وأفكاره أو حتى معالجة الأحداث المؤثرة في نفسه فورًا.
11. إدراك مفاهيم جديدة
أقول دائمًا أن تلقي الطفل لمفهوم جديد هو بمثابة فتح نافذة في عقله يمكنه من خلالها إدراك ما حوله بشكل أعمق وأوسع. تسمح الفنون للطفل بالتعرّف على مفاهيم جديدة مثل: أن الإسفنج يمكنه امتصاص الألوان أو حتى معنى التناسق أو التناسب، هذه المفاهيم توسّع من فهمه للعالم من حوله وتنعكس بشكل مباشر على طريقة تفكيره وترتقي بها، ويمكن للفنون أيضًا أن تعزز لدى الأطفال فهمهم للأشياء والمفاهيم بشكلٍ مختلف من خلال استخدام أسلوب المبالغة في الأعمال الفنية أو الحذف والإضافة أو حتى التنفير.
12. مساحة للاندماج في مجتمعات مختلفة
الاندماج في مجتمعات مختلفة فرصة عظيمة توفرها ممارسة الفنون للتعرف على خصائص أو سمات المجتمع الواحد مباشرة، فيحدث الانفتاح المثري على العالم ليكسب الأطفال أفكارًا أو قيم بارزة في مجتمع معين، على سبيل المثال: اندماج الطفل في مجتمع النحاتين سيريه نتيجة خصلة الصبر ومهارة الإتقان والدقة في العمل، وسيسمع منهم أحاديث تخص عملهم وشغفهم تكون مختلفة عن تلك الأحاديث والخصال التي يتصف بها فنانو المسرح. هذا الاندماج يمهّد لتبني مبدأ التقبل عند الطفل، ويسمح باكتساب مهارات ومبادئ جديدة، ويساعده أيضًا على تقويم أو تعميق فهمه لأفكاره حول موضوع معين.
13. دعم تربية الإنجاز
من المهم تحقيق مفهوم تربية الإنجاز لدى الطفل والتي تهتم بتنمية الإحساس بالثقة والاستقلال الذاتي ليشعر الطفل بكيانه وبأهمية قيمته وبقدرته على الاعتماد على الذات من خلال التدريب وتوفير الفرص ومنح الحرية له. تعتبر الفنون واحدة من أهم الأنشطة التي تحقق كل ما سبق وتساعد الطفل على فهم ورؤية معنى الإنجاز من خلال النشاط الفني أو عمله المنجز.
ووصول الطفل لفهم معنى الإنجاز بالنسبة له يمثّل قيمة عالية لأنه من خلاله يبدأ بفهم التفاصيل الأخرى التي تسبق تحقيق الإنجاز مثل تحديد الأهداف، الصبر والعمل المستمر، تقبل مشاعر الإحباط عند الخطأ والمثابرة للوصول لنتيجة أفضل، وغيرها من المفاهيم التي تتبع نوع العمل الفني.
14. وسيلة لشرح مفاهيم مجردة أو معقدة
هناك الكثير من المفاهيم التي لا ترتبط مباشرة بأشياء محسوسة أو تجارب مادية ملموسة. ومن المهم أن يدركها الأطفال لأنها تؤثر على فهمهم للعالم من حولهم، لو أخذنا نشرح للأطفال معنى العدل أو عملية التمثيل الضوئي لاستغرقنا وقتًا طويلًا للتحدث حول الموضوع لإيصال المعنى؛ لكن لو قمنا بعمل رسمة أو تمثيلية قصيرة لكلا المفهومين لوصلت المفاهيم للأطفال بطريقة ممتعة وسريعة بالإضافة إلى أن تلك المفاهيم سيكون من الصعب نسيانها لأن تمثيلها بالفنون سيشغل عدة حواس عند الطفل مما يعني تثبيت المعلومة لمدة أطول وبشكلٍ أفضل.
وتستمر حلقة التعلم لدى الطفل بالتوسع من خلال توفر فرص ممارسة الفنون، ومع تنوع تلك الفرص تتفتح إمكانيات جديدة تدعم تطور الأطفال. فما الخطوة الأولى التي تنوي فعلها الآن لدعم ممارسة أطفالك للفنون؟