كتبته: غيداء جمعان
في مرحلة الطفولة يحاول الأطفال فهم العالم وتكوين روابط مع ما حولهم، وكذلك يطورون من إحساسهم بذاتهم وبكيفية تعاطيهم مع تجاربهم.
واحدة من أهم تلك العلاقات التي ينظمها الأطفال بعمر صغير هي علاقتهم بالطعام التي يؤثر الأهل والبيئة المحيطة تأثيرًا كبيرًا في تشكيلها، حتى أن الأبحاث أظهرت أن تبني الممارسات التي تشجع على العلاقة الإيجابية مع الطعام يزيد من الشعور بالاستقلالية والسيطرة لدى الطفل بالإضافة إلى تقليل أنماط الأكل المقيدة أو الشراهة (1). لذلك فإن السعي لتنشئة طفل واعٍ غذائيًا ويملك علاقة إيجابية مع الطعام هو أمر في غاية الأهمية.
البداية : رحلة الطعام من الرف إلى أيدي طفلك
فإذا ما استعرضنا رحلة شراء الطعام فإن المسؤولين عن الأطعمة التي تدخل المنزل هما الأبوان؛ لذا هما من يقع على عاتقهما مسؤولية التركيز على جعل مزيد من خيارات الطعام المغذية في متناول يد الطفل. وإشراك الطفل أثناء الشراء في الحوار عن كيفية اختيار الصنف الصحي وما الذي يجب قراءته في وصف المنتج، وعما هو المغذي والمفيد.
فهو يتبع لمدرسة الأبوين الغذائية التي اجتهدا في تكوين رأي حولها حتى آمنا بها، فإن كانا يريان أن القلوتين على سبيل المثال ليس الخيار الأفضل لتقديمه للطفل فليكن هذا مما يتجنبه الطفل.
ومن هذا الجدل القائم حول المفيد أو الذي يفضل تجنبه، فنحن نأمل أن يصل للطفل الأنسب له لنموه هو؛ وأن يعرض عليه ويناقش فيه.
فهذا ما يبني الوعي الغذائي برصانة، حيث يفهم الطفل خياراته الغذائية وعلى ماذا اختيرت؛ فإن كان في عمر يستوعب فيه الاختلاف بين الآراء فمن الجيد تعريضه لها.
وإن لم يكن فتوفير البدائل وتبصير الطفل بفوائدها هو ما يفضل التركيز عليه فنناقش البدائل ونوسع دائرتها قدر استطاعتنا. والقدوة والنمذجة بالمواقف والعادات الإيجابية هنا مهمة فلا نحتاج الإقناع الطويل بتلك الأصناف طالما كانت هي المتوفرة في طبقنا كقدوة.
ثقافة الاعتدال في تقديم الأطعمة للطفل:
ماذا يعني الاعتدال في تناول الطعام؟ بالحقيقة لا توجد قاعدة واحدة تمثل معنى الاعتدال، ولكن يتم تعريف الاعتدال في حد ذاته على أنه “تجنب الإفراط أو التطرف”.
ولديك الحرية في تفسير معنى الاعتدال في نظام غذاء طفلك، لكن ما نطرحه حول الاعتدال فهو مقصدنا في أن نقدم أصنافًا أخرى قد لا نراها الأفضل كصنف عال بقيمته الغذائية، لكنه الأفضل لتكوين علاقة طيبة بين الطفل والطعام؛ لأن جعل الصنف محظور تمامًا قد يرغّب الطفل في تناوله أكثر، وربما يجبر الطفل على ممارسة التلاعب والحيل على أبويه لتناول ذلك الممنوع ودفعه للإفراط فيه أحيانًا.
شارك معلومات قيّمة عن وجبة الطفل:
بعد التعرّف على الأطعمة الأعلى قيمة غذائيًا، وكيف يجب اختيار الأطعمة، فإن الحوار حول ما تحتويه أنواعه المفضلة من الخضراوات والفواكه أو ما يفضل أن تحتوي عليه وجبة إفطاره مثلًا كارتفاع قيمة البروتين والدهون. فعل مهم لتبصير الطفل بما يجب تناوله ولماذا، ففي المثال السابق نحتاج أن نتوسع ونبسط مفاهيم علمية بسيطة مأخوذة من حياة الطفل، كالإشارة إلى أن تناول البروتين والدهون في الصباح يعمل على رفع مادة التركيز “Orexin”، وهذا ما يساعدك في الاستعداد لاستقبال المعلومات في المدرسة. أو أن البرتقال غني بفيتامين (ج) لذلك هو داعم للمناعة ضد الأمراض.
وتراكمية وعي الطفل بمثل هذه الحقائق التغذوية هو ما يساهم في بناء وعي الطفل بالغذاء الأنفع له وما يقدمه هذا الغذاء لجسمه، الأمر الذي يجعله مدركًا أيضًا بما يحتاجه مثلًا عندما يمرض ويدفعه لاختيار أصناف غنية بفيتامين (ج).
ابني ارتباطات صحية وإيجابية مع الطعام:
أحياناً نبني ارتباطات خاطئة بين الأكل وسلوك الطفل، مما قد يؤثر سلبًا على علاقة الطفل بالأطعمة؛ لذلك لا لاستخدام الحلوى كمكافأة أو أي طعام آخر؛ لأن هذا يجعل الطفل يرغب بالحصول عليها مرارًا ويعاملها كشيء يبحث عنه، وهذا يخلق ارتباطًا بين الطعام وبين ما يشعر الطفل به من متعة من تلك الأصناف.
وكذلك ربط الطعام بمسألة الوزن والسمنة والنحافة يخلق نفس التذبذب في الشعور بالراحة والذنب عند تناوله تلك الأطعمة، فيسبب العلاقة المضطربة بالطعام التي قد تفضي إلى اضطرابات الأكل في مراحل متقدمة.
وهذه المشاعر السلبية تجاه الطعام قد تكتسب أيضًا عند توصيف الأطعمة على أنها “سيئة” أو “مضرة” بدلاً عن ذلك يمكن وصف الأطعمة بجمل مثل: “الأعلى قيمة غذائيًا” أو “الأطعمة اليومية”، وهي الأكثر فائدة التي يتم تناولها يومياً ويقابلها “أطعمة بعض الأحيان”، وهي الأصناف “الأقل قيمة غذائيًا” التي يتم تناولها في فترات متباعدة وبتحقيق مفهوم الاعتدال.
إن التحدث مع الطفل عن الطعام بعبارات توصيفيه صحيحة إيجابية شيء أساسي يساعدهم على بناء علاقة آمنة مع الطعام، وأن هذا الطعام يغذي الجسم وهو شكل من أشكال الرعاية الذاتية. حيث يجب أن يدرك الطفل أيضًا أن الطعام له رد فعل داخل جسمه وتناول الأطعمة الأعلى فائدة سيشعر جسمه بالصحة. والوصول لاستيعاب أن ضبط اختياراته الغذائية له تأثير على جسده هو درس كبير وضروري في سلم وعيه بالغذاء.
علّم الطفل الاستماع لجسده:
هناك أبوان يعملان بجد على إستراتيجية تملي على الطفل تنظيف الطبق للتأكد من أنه أخذ حاجته من الطعام، وفي الحقيقة أنها طريقة خاطئة من زاويتين، الأولى هي أن فيها شيئًا من أسلوب التهديد والإملاء القسري على الطفل وهذا مؤذ له نفسيًا فيربك علاقته بالطعام ويشوش فهمه عن الفكرة الصحيحة لكون الطعام شيئًا موجودًا لآخذ قدر حاجتي منه فقط. والأمر الآخر أنه يجعل الطفل يتجاهل الانتباه لإشارات جسمه حول إحساس الجوع والشبع.
وجزء من تطور الأكل والوعي بالغذاء لدى الطفل هو تعلم الاستماع لجسده عندما يكون جائعًا وعندما يكون ممتلئًا، ويتناول الطعام وفقًا لذلك فقط دون الاعتبار لأي مؤثر خارجي.
هل يبدو تقديم تلك المفاهيم شاقًا؟
إذا ما كان لدينا دائمًا تواصل مفتوح ورسمنا خطًا سليمًا لتعليم الطفل الحوار والتفاوض فلا يبدو ذلك شاقًا، ثم إن تقديم تلك المعلومات وإشراك الطفل في تجريبها هو ما يؤسس لَبنات وعي الطفل الغذائي. وهذا ما يبصره مستقبلًا بنوع نمط غذائه المناسب لجسمه هو.
ونحن لا نستطيع ضبط البيئة من حوله، ولا نضمن وجودنا دائمًا عند تناوله لأية وجبة، ولا نعرف ما يعرض عليه من أطعمة خارج المنزل إن كنا حريصين على تقديم كل صحي ومفيد. فهذا الاجتهاد في خلق بيئة صحية وآمنة مع الطعام وداعمة للنقاش والتفاوض عند البدائل وإيصال المفاهيم بشكل سليم هو ما يجعله يثبت على تلك المبادئ في غيابنا، وهذا يمثّل جهدًا مستحقًا ومستمرًا مدى الحياة.
المصادر :
1- Balantekin, K. N., Anzman‐Frasca, S., Francis, L. A., Ventura, A. K., Fisher, J. O., & Johnson, S. L. (2020). Positive parenting approaches and their association with child eating and weight: A narrative review from infancy to adolescence. Pediatric Obesity, 15(10).